مسؤولية القلم

TT

ما حملني لزج نفسي وقرائي بهذا الموضوع الأليم، الكتابة محنة وليس مهنة، هو أن بعض شبكات التلفزيون اتصلت بي بمناسبة رمضان لتقديم سلسلة لذكرياتي عن هذا الشهر المجيد. وعندما سألتهم: كم تدفعون؟ استغربوا من سؤالي. استغرق أحدهم بالضحك. تطوع آخر بأن ذكر أجرة لا تزيد على أجرة كناس الشوارع في لندن. سألت أحدهم: يا سيدي عندما تستشير محاميا أو طبيبا ألا تدفع له أجرته؟ عندما تستدعي سباكا ليصلح لك الحنفية ألا تعطيه ما يستحق من أجر؟ لماذا تنتظرون من الكاتب والمفكر الذي أنفق حياته في تثقيف نفسه أن يقدم لكم خبرته مجانا؟ إذا عانيت وجع رأس وعالجه لك الطبيب، ألا تدفع له أجرته؟ لماذا لا تدفع أجرة العالم والمفكر الذي يغسل لك دماغك من كل هذه الخرافات والخزعبلات والأوهام التي حشروها فيه؟

مضوا وسحبوا التكليف. وهذا جوابي لمن يسألونني عن سر غيابي عن الفضائيات العربية. يقال إن أصحاب بعض هذه الفضائيات يقبضون الملايين من مختلف الجهات، لكنهم يبخلون عن دفع حفنة فلوس للمشاركين فيها. أعتقد أن أصحاب القلم يتحملون جزءا من محنة القلم بتقديم خدماتهم لله بالله. في ذلك إساءة لمهنتهم وحط لقيمتها ومستواها. الواقع أن إصراري على الأجرة هو جزء من احترامي لقوانين وأنظمة البلد الذي أسكنه، بريطانيا. فالقوانين فيها تنص على معاملة المساهمة الفكرية كأي مهنة أخرى لها أتعابها. والأنظمة النقابية فيها تحرم على أعضائها تقديم أي شيء مجانا أو دون التسعيرة الرسمية. ولي تجاربي في ذلك.

اتصلت بي جمعية المسنين للمساهمة بعدد خاص من مجلتها بمناسبة الكريسماس. طلبوا مني قصة قصيرة عن امرأة عجوز عربية. زودتهم بذلك. سألوني: كم تريد أجرة عليها؟ قلت: هذا تبرع مني كرجل مسن لزملائي المسنين في هذه المناسبة الدينية وأنتم مؤسسة خيرية. قالوا: كلا. لا يجوز ذلك. فالقانون يفرض علينا أن ندفع أجرة. قلت: إذن فادفعوا لي أجرة اسمية. قالوا: هذا غير جائز. لا يمكن أن ندفع أجرة دون التسعيرة الرسمية.

ذكرت، قبل أيام، لزميلي عماد الجاك أن أعظم أجرة أعتز بها عن مؤلفاتي كانت خمسة عشر بنسا تسلمتها من مؤسسة حقوق المؤلفين. استغرب الزميل من ذلك، فقلت له: هذا المبلغ التافه يمثل حقوقي عن استعارة كتبي من المكتبات العامة، فالقوانين هنا تنص على أن المؤلف يستحق أجرة عن كل مرة يستعير فيها مواطن كتابا له من المكتبات العامة. الأجرة زهيدة جدا. أعتقد أنها لا تتجاوز 1% من البنس عن كل استعارة. يعني ذلك أن نحو 1500 قارئ قد استعار كتابا من كتبي خلال السنة وقرأه. وهذا سر اعتزازي بما قبضت. كان مبلغا تافها بالنسبة لكاتب غلبان، لكن كتابا غيري ممن لهم شعبية كبيرة في بريطانيا يعيشون على ما يتسلمونه من استعارة كتبهم.

ومن أعلى ما قبضت من الأجور المهنية كان ما تسلمته من تلفزيون «بي بي سي».

بعثوا لي بسيارة أخذتني إلى استوديوهاتهم وأسمعوني شريطا مسجلا من السودان. سألوني: ماذا أجاب الرئيس الجديد؟ قلت: يقول «لا». فدفعوا لي 50 باوندا عن ترجمة كلمة واحدة!