تحية إلى منتهى

TT

هناك مهنة في الصحافة لا أتخيلني قادرا عليها، حتى بمساعدة المسكنات والمهدئات: البرامج الحوارية المتعددة المواقف والأصوات مثل «بانوراما»، الذي تقدمه الزميلة البهية منتهى الرمحي. يتعين على صاحب مثل هذا البرنامج أن يتحمل الكذب المفضوح والفظاظة اللفظية الساقطة وتبرير القتل والتنكيل والجريمة الرسمية، فيما كل ما يستطيعه صاحب البرنامج هو الرد بالقول: «حسنا.. وصلت الفكرة.. فلنستمع الآن إلى فلان في لندن».

أحيانا يلجأ الضيف إلى الاستعطاف: «أنا أقدرك عديد التقدير»، أو إلى الاستضعاف: «لماذا تقسون علينا إلى هذا الحد؟»، أو إلى القسم الكاذب والفظيع: «أقسم لك بالله العظيم»، وهذا ليس حكرا على شهود العيان في طرابلس وحدها، لكنه الأكثر شيوعا، خصوصا عند النساء اللواتي يبدون مثل الحرس السابق.

هذه، ربما، أكثر مرحلة طغت فيها الحوارات في البرامج ونشرات الأخبار. ولا أريد أن أتجاهل أحدا ولا أن أظلم أحدا ولا أن أهمل أحدا، لكن لأسباب كثيرة، منها توافر القنوات حيث أكون، ومنها توقيتات البرامج، فقد أمضيت الشهرين الماضيين مع منتهى الرمحي.. وربما أكثر.. فما زلت أذكر مقابلتها في صنعاء مع الرئيس علي عبد الله صالح، يوم عرض أن يتنحى بعد 24 ساعة، أو حتى بعد وصول منتهى عائدة إلى دبي. تساءلت يومها: بأي شجاعة عبرت هذه السيدة شوارع صنعاء المزدحمة بساكنيها من موالين ومعارضين ومنتظرين.. وبأي هدوء طرحت على الرئيس، المتململ في كرسيه، تلك الأسئلة التي تبعث على المزيد من التململ؟

ثمة حضور عذب ومحترم معا.. وأدب جم. وتتقن منتهى، إلى شبه الاكتمال، معرفة حدودها ومعرفة حريتها. وتشعر ضيفها، مهما كان عدائيا وفجا وجلفا وببغائيا، بأنها تصدق ما يقول وتقبل ما يتقول. وفي المقابل هناك برامج منفرة إلى درجة غير محتملة، يعتقد صاحبها أنه أذكى من محدثه، ويرشق الأسئلة من دون أن يصغي إلى الجواب عليها، ويعتقد أنه كلما قلل الأدب وخالف الأصول وقعد على القواعد، كان ذلك دليلا على النجاح.

ويعتقد هذا الجنس من مقدمي البرامج أنه يقلد الكبار في العالم (السير روبن رايت في زمانه، أو برنامج «هارد توك» اليوم)، وأرجو تقبل نصيحة صادقة (من أجل المشاهد لا من أجلكم) وهي: حاولوا أن تصغوا إلى برامجكم بعد بثها ومعكم مقياس لدرجة الوقاحة ودرجة الغلاظة ودرجة الفظاظة. وربما كان في ذلك ما يفيدكم ويفيد محطاتكم ومشاهديكم. أنا لا فائدة شخصية لي، لأنني تعلمت ماذا أحضر ولماذا أتعوّذ. وتحية قلبية إلى عزيزتنا منتهى.