حافظ الأسد.. هكذا أكل رفاقه وأوصل السلطة وراثية لأبنائه!

TT

عندما نفذ حافظ الأسد حركته التصحيحية في عام 1970، التي مهد لها تدريجيا إلى أن سيطر سيطرة تامة على الجيش السوري بكل قطاعاته وأسلحته وأهمها القوات الجوية، كان المؤتمر القومي العاشر الاستثنائي للحزب منعقدا في دورة استثنائية لمعالجة أزمة طاحنة بقيت تعصف بالبلاد منذ عام 1968، حيث لم يسانده ويقف معه خلال ذلك المؤتمر، الذي هو آخر مؤتمرات حزب البعث الفعلية، إلا ثلاثة أعضاء من أصل ثلاثة وثمانين عضوا، هم مصطفى طلاس الذي بقي وزيرا للدفاع أكثر مما بقي هيلاسلاسي رئيسا لإمبراطورية الحبشة، وعبد الحليم خدام، ومحام أردني اسمه أحمد النجداوي (أبو هشام) ما لبث بعد فترة قصيرة أن التحق ببعث العراق وأصبح من أشد المؤازرين لصدام حسين والمعجبين به.

كانت سوريا في تلك الفترة لا تزال تعيش مرارة هزيمة يونيو (حزيران) عام 1967 وكانت في أسوأ أوضاع اقتصادية تمر بها وكانت ظلال تلك الهزيمة النكراء، التي لا تزال تدفع ثمنها الأمة العربية حتى الآن، والمؤكد أنها ستبقى تدفع ثمنها لسنوات مقبلة طويلة، لا تزال تخيم على الأجواء، وكل هذا بينما الذين يحكمون كانوا هم أساسا اللواء صلاح جديد والدكتور نور الدين الأتاسي، وكلاهما قضى نحبه عمليا في سجن المزة بعد نحو ربع قرن من الاعتقال بدون أي محاكمة ولا سؤال ولا جواب، والدكتور يوسف زعين الذي يقضي باقي ما تبقى من حياته الآن لاجئا في بودابست عاصمة المجر والدكتور إبراهيم ماخوس الذي يعيش الآن مع عائلته في الجزائر منذ عام 1971 وظروفه الصحية في غاية السوء.

كان شاعرا، أو مستشعرا، غير معروف ولا مشهور قد انضم إلى جوقة المطبلين حينما كان المؤتمر القومي الاستثنائي منعقدا. وبينما كانت دبابات وزير الدفاع تتحرك نحو دمشق ومفارز استخباراته تتهيأ لعمليات دهم واعتقال لكبار قادة حزب البعث ومسؤوليه، نشر قصيدة قال في مطلعها:

تنام جلق بين اليأس والكمد

أما من منقذ يا حافظ الأسد

وحقيقة أن دمشق في تلك الفترة كانت تنام بالفعل في كمد وكانت معزولة عربيا ودوليا وكانت علاقاتها سيئة حتى مع الاتحاد السوفياتي وكان الرباعي الذي يحكمها، صلاح جديد ونور الدين الأتاسي ويوسف زعين وإبراهيم ماخوس، والثلاثة الأخيرون كانوا قد تطوعوا للعمل في الثورة الجزائرية كأطباء، من أفضل ما مر على حزب البعث في كل تاريخه من حيث الجدية ونظافة اليد والبساطة والتمسك بالمبادئ التي كانوا يعتنقونها لكنهم كانوا حالمين وغير واقعيين وكانت لديهم نزعة تطرف جامحة وكانوا يغلبون العقائد على السياسة، وهذا أدى إلى أن نظامهم أصبح يعيش عزلة داخلية وخارجية استغلها حافظ الأسد ليقوم بانقلاب عسكري بدون دماء أطلق عليه اسم «الحركة التصحيحية» تلا بلاغه رقم «1» من الإذاعة والتلفزيون السوريين محافظ دير الزور الأسبق، التي هي محافظة جلال السيد الذي هو أحد مؤسسي حزب البعث إلى جانب ميشيل عفلق وصلاح البيطار وشاكر الفحام ومحافظة الدكتور يوسف زعين الذي عمل لفترة رئيسا للوزراء ومحمد عيد عشاوي وزير الداخلية المتشدد الذي سجن لأكثر من عشرين عاما والذي مات غرقا في نهر الفرات بعد إطلاق سراحه.

حتى قبل حركة الثالث والعشرين من فبراير (شباط)، التي قادها هذا الرباعي الآنف الذكر صلاح جديد ويوسف زعين ونور الدين الأتاسي وإبراهيم ماخوس والتي لعب فيها الفريق حافظ الأسد دورا أساسيا لإقصاء القيادة التقليدية الممثلة بالثلاثي ميشيل عفلق وصلاح البيطار وأمين الحافظ والأردني منيف الرزاز تمهيدا لحركته التصحيحية اللاحقة، كانت الأوضاع في سوريا غير مستقرة وكانت الصراعات بين مراكز القوى في ذروتها وكان مركز الثقل قد بدأ ينتقل من المدنيين والحزب إلى الجيش والثكنات العسكرية.

وتجسيدا لعمليات الاستقطاب الشديد هذه وتهيئة للانقلاب على رفاقه والقيام بحركته التصحيحية التي وضعت كل مقاليد الأمور في يده، بادر حافظ الأسد إلى القيام بعملية عسكرية تمهيدية في عام 1968 بعد أن تخلص من رئيس مكتب الأمن القومي (المخابرات) عبد الكريم الجندي في عملية اغتيال وصفت في حينها بأنها انتحار ذاتي بخمس رصاصات في الصدغ، على غرار ما جرى لاحقا مع غازي كنعان. وحقيقة أنه بعد شبه الانقلاب العسكري المبكر هذا قد أصبح الحكم والسلطة في دمشق برأسين أحدهما مجموعة صلاح جديد ونور الدين الأتاسي والآخر وزير الدفاع الذي غدت معظم مقاليد الأمور في يده منذ تلك الفترة وحتى استكمل انقلابه الأول بانقلاب آخر في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1970.

وهنا فإن ما تجب الإشارة إليه - ونحن بصدد الحديث عن هذه المسألة التي هي مجرد عودة لاستذكار تاريخ مرير يلقي بعض الأضواء على ما يجري في سوريا الآن - هو أنه عندما انعقد المؤتمر القومي الاستثنائي العاشر في عام 1970 كان نظام الرباعي (صلاح جديد، نور الدين الأتاسي، يوسف زعين وإبراهيم ماخوس) بحكم المنتهي، وأنه كان بانتظار هزة خفيفة ليسقط بعدها كما سقطت تفاحة «نيوتن» لوحدها بفعل الجاذبية الأرضية، وهذا ما حدث، حيث رفع هؤلاء أيديهم وسلموا رقابهم للفريق حافظ الأسد بدون ولو الحد الأدنى من المقاومة العسكرية والسياسية.

لقد كان هؤلاء ومعهم كثيرون من رموز هذا التيار رجال أحلام وسفسطات حزبية فارغة أكثر من كونهم رجال حكم في مرحلة كانت ملتهبة وصعبة في الشرق الأوسط كله، وإلا لكانوا ألقوا القبض على وزير الدفاع، الذي أسقط مدينة القنيطرة ببلاغ عسكري استباقي قبل أن تسقط بأكثر من 48 ساعة، ولحاكموه بتهمة التفريط إن ليس بتهمة الخيانة العظمى. لكن هذا لم يحصل، مما جعل حافظ الأسد يستغل أجواء الهزيمة وانعكاساتها المدمرة على أوضاع سوريا ليستكمل سيطرته على مقاليد الأمور وليضرب ضربته في اللحظة المناسبة.

ما كان يجب أن يبقى في موقعه وزير دفاع قاد جيشه وقاد البلاد إلى الهزيمة، لكن ضعف هذه المجموعة الحاكمة، (صلاح جديد، نور الدين الأتاسي، يوسف زعين وإبراهيم ماخوس)، وترددهم مكن حافظ الأسد من أن ينتقل إلى مرحلة الهجوم الكاسح وأن يقوم بانقلابه الأول، بعد التخلص من عبد الكريم الجندي، في عام 1968 وليبادر بعد نحو عامين، كان يتقاسم فيهما السلطة على أساس ما هو أكثر من مناصفة مع هؤلاء، إلى القيام بحركته التصحيحية التي أورثها لولده بشار بعد أن أخرجها من بين فكي شقيقه رفعت الأسد في عام 1984.

في عام 1983، عندما كان حافظ الأسد في ذروة قوته وجبروته وكان قد حول سوريا بـ«براغماتيته» المعروفة وعلى أساس أن: «الغاية تبرر الواسطة» إلى رقم رئيسي وأساسي في المعادلة الشرق أوسطية، أصيب بمرض سرطان الدم الذي أنهك جسده وأوصله في عام 1984 إلى حالة من الإغماء دفعت شقيقه رفعت الأسد إلى المسارعة للانقضاض على السلطة، لكن هذا الرجل المناور البارع استطاع أن يتغلب على أوضاعه الصحية السيئة فنهض من سرير المرض وارتدى لباسه العسكري واصطحب ابنه الأكبر باسل وخرج إلى القطاعات العسكرية التي كانت تطوق دمشق وهيمن على قيادتها فتحول كل شيء لمصلحته ولمصلحة ابنه بشار، وحيث فر شقيقه، الذي كان يعتقد أنه الأولى بالحكم، إلى الخارج ليبقى ينعم هناك برغد العيش منذ ذلك الحين وحتى الآن.