رسالة إلى ولدي!

TT

قرأت اليوم نداء من أب إلى ولده يقول فيه: يا ولدي.. كل شيء كما تريد.. لن تكون هناك متاعب بعد اليوم.. لقد ماتت زوجتي.. وأنا وإخوتك في انتظارك فلا تقلقنا على حياتك.. والدك الحزين!

ولو كنت والد هذا الشاب لكتبت له أقول: أنت الآن لم تعد طفلا.. أنت تقرأ الصحف وأنت لك تفكير مستقل.. ولذلك سأحدثك كما يحدث الرجل رجلا.. اسمع يا ولدي لقد ماتت زوجتي.. وقد تعذبت منها وبها ومن أجلها كما تعذبت أنت.. أنت لا ذنب لك.. ولكن الذنب لي.. وأنا أعلم أنها هي التي جعلتك تكره البيت وتكره البقاء فيه وتكره أباك وتنفر من المدرسة.. ثم من الحياة كلها.. معنا أو مع غيرنا.. ولكن أريد أن أصارحك.. إنك يا ولدي كنت كسولا وكنت تلوم زوجتي.. وكنت عابثا واللوم طبعا على زوجتي.. لقد كانت هي «الشماعة» التي تعلق عليها فشلك وقلقك وأرقك.. لقد كانت هي «الغدة» التي تفرز المرارة في لسانك والسواد أمام عينيك.. واليأس في نفسك.. وكانت هي الشوك والمسامير والوحل في طريقك..

وهناك يا ولدي أشياء كثيرة لا داعي لأن أذكرها لك.. ستعرفها عندما تكبر.. ستعرف لماذا تزوجت هذه السيدة بعد وفاة والدتك.. كان ذلك من أجلك أنت.. من أجل تربيتك.. من أجل أن تكون رجلا نظيفا.. تشرف عليه سيدة مثقفة فلا يكون كرة أو عجينة أو قطعة من القماش في أيدي الخادمات.. وأنا أعلم أن هذه السيدة قد احتلت بيتنا وسجنتنا نحن الاثنين فيه.. وسهرت علينا وفتحت عينيها وأذنيها ولم نعرف الراحة ولم تعرف هي الراحة أيضا. إن السجان هو الآخر كالسجين لا يستريح.. إنه يخاف من السجين ويخاف عليه.. إن السجين داخل القضبان.. والسجان خارج القضبان لا يستطيع أن يتحرك يمينا وشمالا.. فكلاهما إذن سجين.. وكانت زوجتي أكثرنا عذابا.. وهي التي علمتني السهر خارج البيت وأبدد أموالي هنا وهناك وأنا مثلك يا ولدي قد جعلتها هي أيضا «شماعة» أعلق عليها سفاهتي وإسرافي وكنت كلما شكوت من التعب دعوت عليها.. وكلما شكوت من الإفلاس دعوت عليها.. والحقيقة يا ولدي أنني وأنت قد بالغنا كثيرا في الدور الذي لعبته زوجتي في حياتنا.. لقد حملناها أكثر مما تطيق.. لقد جمعنا كل شيء وألقيناه عليها فأصبحنا بلا خطايا وأحسسنا بأننا مظلومان.. وأن الظالم زوجتي!

والآن يا ولدي.. أنا وأنت بلا شماعة.

أنت منذ الآن حر.. والحرية رائعة.. ولكن الحر هو الذي يصبح بعد ذلك مسؤولا عما يفعل.. وعما يقول.. والإنسان الحر هو الذي يختار كل حركاته.. إنه يقف وجها لوجه أمام نفسه وأمام كل الناس.. والمسؤولية ثقيلة.. ولذلك كثيرا ما رفض الإنسان أن يكون حرا.. وكثيرا ما نزل عن إرادته لغيره من الناس.. فرارا من المسؤولية!