كيف تُقرأ محاكمة حسني مبارك.. سياسيا؟

TT

أول الكلام: إننا مع العدالة من حيث المبدأ، ولا نتدخل في تفاصيلها، إذ إن ذلك من اختصاص القضاء وحده.. نعم، مع العدالة لأن «العدالة أساس الملك»، الملك بمعنى الكون، والملك بمعنى الحكم والسلطة، ولقد انتظمت آية واحدة قرآنية المعنيين كليهما: «وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ. أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ».. فالسماء الكونية مضبوطة بميزان العدل، والإنسان مدعو لكي يكيف سلوكه مع (الميزان الكوني) حتى تستقيم حركته ويستقيم تعامله مع حركة الكون، فلا يطيش ميزان تعامله مع أخيه الإنسان بظلم ولا طغيان. ولئن خوطب الناس جميعا بالاستقامة على ميزان العدل، فإن الحكام أول المخاطبين بذلك: بلا ريب.. نحن مع العدالة القضائية. بيد أننا لسنا مع «الشماتة».

بعد تقرير حق العدالة مع كل أحد، ورفض الشماتة بحسبانها رذيلة نفسية وأخلاقية، نسأل: كيف ينبغي أن تُقرأ محاكمة الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك؟

1) ينبغي أن تقرأ في ضوء أن الرصيد الحقيقي للحاكم هو «محبة شعبه» له؛ محبة تحوطه بالولاء والوفاء والتأييد، والعكس صحيح، بمعنى أن أكبر خسارة تحيق بالحاكم هي «بغض شعبه» له، ونزع الولاء والتأييد والوفاء له، بل تمني أن يراه في قفص الاتهام يحاكم.

2) وينبغي أن تقرأ بمعيار: أن بطانة السوء والغش هي أعدى أعداء الحاكم، وإن تظاهرت بغير ذلك. ومن دون تهوين من أخطاء حسني مبارك الذاتية، فإن من أعمق العبر في محاكمته أنه «ضحية» للآراء والمشورات الغشاشة من قبل المحيطين به، من الأقارب والأباعد.

3) وينبغي أن تقرأ هذه المحاكمة بمقياس «التحرر من الاعتماد على العكاكيز الخارجية».. ونسارع - ها هنا - إلى دفع وهم قبل أن يبزغ في الذهن وهو أننا لا ندعو إلى «الانقطاع» عن العالم الخارجي أو الاستهانة بما فيه من مصالح وعلاقات وعناصر قوة. فمن أقوى عناصر السياسة الخارجية لأي دولة قدرتها على إقامة روابط متينة ونافعة مع دول العالم.. وإنما نقصد بالتحرر نقض «الاعتماد الوهمي» على الخارج بناء على حقيقتين مهمتين جدا: حقيقة أن السند الحقيقي لأي نظام سياسي هو «متانة الجبهة الداخلية» المتناغمة بعمق مع قيادتها ونظامها.. وحقيقة أن الإفراط - الساذج أو الكسول - في الاعتماد على السند الخارجي قد جر على أصحابه ومؤيديه خيبات مريرة. والأمثلة على ذلك مستفيضة في التاريخ المعاصر.. مثال ذلك ما سجله آخر سفير أميركي في طهران ويليام ساليفان في كتابه «أميركا وإيران». يقول ساليفان: «في قصة حياته التي كتبها في المنفى عام 1981 يبدو للقارئ أن الشاه كان يتصور أن الولايات المتحدة لديها خطة ما لإنقاذ بلاده والحفاظ على حكمه، وبناء على هذا الافتراض فإنه كان مستعدا لتقديم تضحية شخصية في سبيل تحقيق هذا الهدف، ولكن الشاه اكتشف فجأة أننا لا نملك أي خطة أو فكرة أو مشروع، وأن النزوات والأهواء هي التي تقود وتوجه سياستنا».. ولئن نسي الحكام هذا الخذلان الأميركي المرعب للشاه، نظرا لتقادمه النسبي، فإن ما يجري لمبارك في هذه الأيام يتوجب أن يكون حاضرا - برمته - في الذاكرة، للصوقه الآني الشديد بالوعي والزمن وغريزة البقاء ومقتضى العقل والحكمة.

4) وينبغي أن تقرأ هذه المحاكمة في ظل حوادث متتابعة وقعت لرؤساء وزعماء عرب في الحقبة الأخيرة. فواحد منهم اغتالوه (أنور السادات)، وثان سمموه (ياسر عرفات)، وثالث فجروه في سيارة (رفيق الحريري)، ورابع شنقوه (صدام حسين)، وخامس حاصروه وقصفوا مخابئه (معمر القذافي)، وها هو السادس يوضع في قفص الاتهام ويتفرج عليه العالم (حسني مبارك).. قد تكون هذه حوادث لا يربط بينها شيء، وقد يكون بينها «رابط خفي».

5) وينبغي أن تقرأ هذه المحاكمة خالية من الإيحاءات السلبية، أو الاعتبار المقلوب.. ومن هذه الإيحاءات السلبية المقلوبة الغبية، أن الحكام الذين يخوضون معارك ضد الناس في بلادهم (سوريا وليبيا) قد يفكرون بالطريقة التالية: نحن لن نقبل بمصير مثل مصير حسني مبارك. ومن هنا فإن الحل الوحيد أمامنا هو المزيد من البطش بالشعب حتى نحمي أنفسنا وأهلينا من أهوال ومخازي مصير حسني مبارك.

وهذه عبرة مقلوبة، وتفكير تعس بائس من حيث إن هؤلاء ينسون أو يذهلون - تحت ضغط الخوف - عن أن الحاكم الذي يشاهدونه الآن وهو في قفص الاتهام لم يقصر قط في القمع والبطش القاتل، لكن هذه الوسائل لم تغن عنه شيئا، بدليل ما هو فيه.

إن كل طغاة الأرض - كما يحكي التاريخ الموثق - قد توهموا أن وسيلتهم الأضمن للحكم والبقاء فيه، هي الجبروت والبطش ومزيد من سفك الدماء.. هذه حقيقة.. والحقيقة الأخرى هي أن هذه الوسائل خابت بدليل أن الطغاة قد هلكوا جميعا.. وهذا قانون صارم سيشمل حكام سوريا وليبيا ما لم يكفوا عن معالجة الأزمات بمزيد من الدم.