نساء المآثر: الجمعيات الخيرية مثالا

TT

في مجتمعاتنا الشرقية خاصة، يستأثر الرجل بذكر ما يخلف من مآثر؛ اجتماعية أو ثقافية أو إنسانية خيرية، وهو يحظى من وسائل الإعلام بما يمجد مناقبه. ولا تزال الأقلام تعتم، وعلى استحياء، على شمائل النساء وخصالهن وأفضالهن، وعلى ما يبدعنه في الحياة من إنجازات، ضمن ثقافة متجذرة سائدة، تتجاهل المرأة جندرا.

وربما كان التراث العربي القديم أكثر إنصافا للمرأة حين سجل عبر التاريخ نماذج خلدت فضائل إنسانية، في البذل والتضحيات والإبداع الفكري، في حين تبدو ملامح العقوق في عصرنا الحاضر لسيدات أنكرن ذواتهن من أجل الإسهام في العمل التطوعي والخيري، وبرزن في العمل الإنساني، والريادة فيه وفي المجهود الاجتماعي، على وجه العموم.

ولعل الاستثناء في المجتمع السعودي - بل ربما يكون الدليل على ما تقدم - هو ذلك الكتاب شبه اليتيم الذي ألفته أستاذة التاريخ دلال مخلد الحربي (من إصدار دارة الملك عبد العزيز 1999)، وتناول سير نساء شهيرات في المجتمع عبر العصور المتأخرة، وهو كتاب ينتظر من مؤلفته جهدا لاحقا للتوسع في موضوعه، وكان من آخر المقالات التي انتقدت غياب الإفصاح لتسجيل تراجم صاحبات الفضل والنبل والإنجاز في مجتمعاتنا العربية، هو ما كتبته أستاذة التربية عزيزة المانع في صحيفة «عكاظ» السعودية (الأحد 2009/4/26) بعنوان: تراجم النساء.

وكان من أبرز الخطوات التي أقدمت عليها الحكومة السعودية مؤخرا وشكلت انقلابا تطويريا باتجاه إبراز أسماء النساء، تسمية جامعة البنات الوطنية باسم شقيقة الملك عبد العزيز (نورة)، التي كان يفاخر بها نسبا وبمآثرها حسبا، وهو ما فتح الباب لمزيد من الاعتراف بأفضال النساء من خلال تسمية كثير من شواهد التنمية بأسمائهن، بعد أن تم رفع الحجاب الاجتماعي عن ذكرهن.

لقد كنا في الماضي نبالغ في إخفاء دور المرأة في مجال العمل الخيري، ليس من باب التعتيم على الأسماء الأنثوية فحسب، كما أشرت، بل ربما من باب الحرص على نكران الذات، مما يدخل في توجه بعض الأسر إلى عدم المباهاة بما تقدمه من معروف، وبالتالي بما تقوم به النساء والرجال على حد سواء من مآثر وأعمال. ومما يضاف إلى ثقافة التعتيم تلك على الأسماء الأنثوية ما يلحظ من إخفاء أسماء المتوفيات عند كتابة أخبار الوفيات وفي إعلانات التعزية والنعي، فلا يكاد يذكر من تعريف بالمرأة المتوفاة إلا أنها حرم فلان، أو والدة فلان، أو شقيقته أو كريمته، وهكذا.

ترد هذه الخواطر، والمجتمعات العربية عامة، والمجتمع السعودي خاصة، تشهد عاما بعد عام، تأسيس جمعيات خيرية يكون خلف إنشائها فاضلات أو ورثة فاضلات، وكثيرا ما يكون وراء تكوينها والقيام عليها وإنجاحها سيدات، وفي حالات معينة يأتي تكوين بعض تلك الجمعيات نتيجة معاناة من مرض مزمن، وتبقى معظم تلك الأسباب طي الكتمان، بعدا عن المباهاة في أفعال الخير.

لقد رصدت في هذا السياق حالات يتحسس الأبناء والبنات فيها رغبة الأمهات، المريضات أو المتوفيات، حب المعروف في أثناء صحتهن، فيسيرون بصمت وإيثار على النهج نفسه لإنشاء جمعية خيرية يعم نفعها الوطن بأكمله، ومن تلك الحالات، على سبيل المثال، جمعيات النهضة والزهايمر والكلى وسرطان الثدي والتوحد والعنود الخيرية، ولكل واحدة من هذه الجمعيات النماذج قصته، لكنها جميعا تندرج تحت مآثر النساء.

هذه مجرد أمثلة من ميادين الخير والحب، حيث توظف ثروة المال والجهد والانتباه لما يخلد من كان وراءه، حيا أو ميتا، ويجعله حاضرا في ذاكرة أمته، فما أنبل أن تمتد مآثر الخلق في حياتهم لما بعد رحيلهم! وما أبلغ أن يذكر الإنسان في مرضه أو في غيابه، مثلما كان يذكر في عافيته وحضوره، أو بما هو أنفع! ومَن أنعم مِن الله وهو يرزق المرء من ذريته من يرعى مقاصد والديه في البر والإحسان إلى الآخرين.

ورحم الله إنسانا أعطى وهو يدري، ثم أعطى أولاده نيابة عنه وهو لا يدري، وذاك الذي أعطى وهو بعيد، مثلما أعطى وهو حاضر.

* إعلامي سعودي