محاكمة أم تشف؟!

TT

الانغماس في الأحداث الدامية التي تشهدها سوريا، لم يشغل السوريين عن متابعة المحاكمة الفريدة لرئيس عربي من قبل شعبه ومن دون وصاية خارجية. هناك من انتظر محاكمة الرئيس المصري السابق حسني مبارك باعتبارها إحدى ثمار ثورة الشباب وانتصارا لسيادة القانون وتحقيق العدالة، وهناك من أمل أن تتمكن هذه المحاكمة من إزالة مرارة المحاكمة المذلة للرئيس العراقي صدام حسين، التي تمت تحت الوصاية الأميركية. وعدا ذلك يُعول على هذه المحاكمة لاستشراف مستقبل الثورات في المنطقة، إلا أن وقائع الجلسة الأولى التي تابعها الملايين على الهواء مباشرة، للأسف لم تبشر بالخير، وعلى الضد من ذلك، زادت المخاوف مما يجري في مصر.

بداية، من غير المبرر أن تفتقر للتنظيم محاكمة معلوم سلفا أنها ستنقل على الهواء مباشرة لرئيس حكم لمدة ثلاثة عقود بلدا بحجم مصر، له ما له وعليه ما عليه. حيث ظهر عشرات من محامي الادعاء يتدافعون ويتخاطفون المايكروفون لتلاوة مرافعاتهم وكأنهم في طابور أمام مؤسسة استهلاكية، بينما القاضي الصارم بدا وكأنه معلم مدرسة يجهد لتنظيم الطلاب المشاغبين. في الوقت الذي كانت فيه الأنظار مشدودة إلى الشاشات للاستماع للمرافعات وتوقع كشف ما خفي من حيثيات ما جرى في دوائر القرار وكواليسه خلال الأزمة، وكيف تدار دفة الحكم في هذا النمط من الأنظمة الاستبدادية، وكيف تواجه الأزمات.

انتظر المتابعون بفارغ الصبر مشاهدة أولى خطوات تطبيق الممارسة المدنية الديمقراطية العربية، وإذ بنا أمام مشهد عربي رث، فعدا الفوضى، فاحت من المشهد العام رائحة الثأر والتشفي والرغبة في شرشحة رموز النظام، بينما الأهم تعرية نظام الحكم السابق. حتى إن أحد المحامين استهل كلمته بآية تقول: «وتعز من تشاء وتذل من تشاء».

مهما بلغ تقديرنا للمشاعر الغاضبة وآلام أهالي الشهداء من الحزانى والمكلومين، لا ينبغي أن يكون ذلك على حساب هيبة الدولة المنشودة، وكشف الحقائق وتطبيق القانون وتحقيق العدالة، لا سيما أن الثورة التي تمكنت من إسقاط رموز النظام، لم تتمكن بعد من إسقاط النظام، والجلسة الأولى من المحاكمة أكدت صعوبة إسقاطه، هذا إن لم نقل بشرت بنظام لو استمر على هذه الحال، فلن يكون أفضل، بل ربما أسوأ مما نتوقع.

بينما ظهر على الشاشات من المرافعات القانونية التي قدمها المحامون نيابة عن أهالي المتضررين في واقعة الجمل، تركز معظم المطالب على طلب تعويضات مادية لأهالي المصابين والشهداء الذين قضوا في ميدان التحرير، مع أنه كان بالإمكان جمع كل المرافعات في واحدة، وتكليف محام أو اثنين لعرضها بدلا من عشرات كانوا يتهافتون على فرصة الكلام أمام القاضي.

الجلسة الأولى جاءت مهينة ومرعبة في دلالتها، إذ تذكر بمحاكمات القرون الوسطى حين كان المتهم يساق وسط الجموع الغاضبة وصراخهم يعلو في الفضاء: اقتلوه.. اقتلوه.. في شهوة عارمة للانتقام. لو كانت المسألة هذه إضافة إلى التعويضات المادية، فلا ضرورة للمحاكمة، وكان بوسع الجماهير الغاضبة أن تقتله وتنهب قصوره، وتؤسس لعهد جديد مستنسخ عن سابقه. ولكن بما أن الشباب الذين خرجوا إلى ميدان التحرير بذلوا أرواحهم للحصول على الحرية لوطنهم وشعبهم؛ الحرية بما تعنيه من قيم المواطنة والعدالة الإنسانية، يجب أن لا تهدر الدماء النقية التي سالت ثمنا لصورة الرئيس مبارك مكبلا خلف القضبان أو لنعته بالمجرم نزيل سجن طرة.

ليس دفاعا عن الرئيس مبارك لأنه لا يستحق الدفاع عنه كشخص أساء لشعبه ولمكانة بلده بشكل تجاوز الحدود والأعراف والقوانين في العقد الأخير، ولكنها كلمة حق يجب أن تقال إذا أردنا الاحتكام للضمير ولصوت العقل، كان بالإمكان الحد من شرشحة الرئيس مبارك والتخلي عن طلب إحضاره إلى قاعة المحكمة محمولا على سرير المرض، لا مراعاة لسنه الكبيرة ولا تقديرا لرفضه مغادرة مصر (هو وأبناؤه)، على الرغم من أن ذلك كان ممكنا في الأيام الأولى لتنحيه عن منصبه. وإنما لأنه رئيس مصر لثلاثين عاما كان فيها (شئنا أم أبينا) ممثلا للشعب المصري.

لعل هذه اللحظة المفصلية في تاريخ مصر والمنطقة هي الأنسب ليقول الثوار الشباب قولهم الحر، ليس احتراما لمنصب الرئيس، وإنما احتراما لقيم العدالة والمساواة أمام القانون، ولإثبات أن الاستبداد إذا نجح في فرض الطاعة والخنوع على الشعب، لكنه لم ينتزع روح الحقيقة المتعالية على المعاملة بالمثل. وهو اليوم إذ يقدم الاحترام لرئيس مخلوع ومنزوع الصلاحية، فذلك لأنه شعب حر، ولعل في تعامل المؤسسات التي تمثله بما يخص محاكمة رموز النظام السابق، أن تكون كفيلة بالتأكيد على أن الثورة قادرة على إزالة العقد التي خلفها الاستبداد الطويل، لا أن تعجز عن ذلك وتترك مستقبل مصر رهنا لها.

وعلى هذا نطمح أن تكون المحاكمة أحد تمثلات مفاهيم ثورة الشباب لقيم الحرية والعدالة، ولا نظنه غائبا عنهم أن الرئيس القابع في قفص الاتهام هو مواطن مصري، ويتمتع بكامل حقوقه وواجباته، وفي تعاملهم معه احترام لهيبة مصر وكرامتها، التي تستحق بمؤسساتها القضائية العريقة أن تنتج نموذجا في تحقيق العدالة يؤسس عليه ويستشهد به، يرتقي للمستوى الحضاري الرفيع الذي أدهش العالم في ميدان التحرير.

* مراسلة «الشرق الأوسط»

في دمشق