اتفرج يا سلام: محاكمة مبارك حصريا على كل الشاشات في رمضان

TT

تضاربت عواطف وانفعالات المصريين عند رؤيتهم لرئيسهم السابق مريضا مستلقيا على نقالة داخل قفص حديدي في قاعة محكمة، ما بين ارتياح شديد، واستياء أشد. وهو الارتياح الذي بلغ أحيانا حد الفرحة الهستيرية (Euphoria) كما تعرضه بعض عناوين الصحافة التي سأعرضها بعد قليل، بالإضافة، بالطبع، لبعض زبائن الفضائيات الذين طالبوا بإعدامه في شوق عظيم، بعد محاكمة عادلة بالطبع. يمكن تفسير هذا التناقض الحاد في الانفعالات إذا أخذنا في الاعتبار بأن محمد حسني مبارك ليس شخصا فقط بل هو أيضا فكرة، هو مواطن، وهو أيضا يمثل فكرة الرئاسة والرئيس عند عدد كبير من البشر. الوعي، ينتج الاستياء والرغبة في عقاب هذا الشخص الذي يتصورونه مسؤولا عن كل ما حدث لهم من ألم وإحباطات، وفي الوقت ذاته لا يستطيع اللاوعي الإفلات من أسر فكرة الرئيس والرئاسة، لذلك يقع صريع الحزن لمصيره والتوحد معه، وخاصة أنه كان محاطا بولديه الشابين مما جسد في اللاوعي فكرة الأب الذي كان أقوى الأقوياء يوما ما ثم تحول إلى عجوز وعاجز راقد على حمالة طبية في قاعة محكمة داخل قفص حديدي.

الارتياح المبالغ فيه من ناحية، والاستياء والألم في الناحية الأخرى، هذان الانفعالان، أو هاتان العاطفتان، أليسا امتدادا لما قاله أرسطو من قبل عن طبيعة المأساة (التراجيديا) من أنها تثير في نفس المتفرج عاطفتي «الرعب والشفقة» (Pity and terror) وأن امتزاج هاتين العاطفتين يحدث داخل المتفرج قدرا من التطهر. المأساة كما يرى أرسطو لا تحدث إلا لعظيم، وبالمقاييس العصرية وفي الجمهوريات، لا يوجد من يحتل مقاما أعلى من رئيس الجمهورية، وبالتالي وفي اللحظة التي تتوحد فيها بالبطل (العظيم) في محبسه معانيا أكثر الظروف بؤسا وتعاسة في التاريخ، يبدأ الرعب في الاستيلاء عليك، غير أنك وبآليات الحفاظ على النفس، تكتشف أنك لست هو، وأن ما يحدث له إنما يحدث له وحده، عندها تبدأ في الإحساس بالشفقة عليه. أعتقد أن شيئا من ذلك قد حدث للمصريين جميعا عند مشاهدة مبارك سجينا عاجزا عن الحركة.

غير أن ما أعترض عليه ويخيفني حقا هو استغلال المشهد إعلاميا وسياسيا لصنع حفل زفاف وهمي لا يوجد فيه عريس أو عروس بل مدعوون فقط، والإصرار على ضخ حالة من الفرح في صدور الناس تحجب عنهم رؤية مشاكلهم الحقيقية وضرورة التصدي لها وكأن محاكمة مبارك الهدف منها هو الحصول على إجازة طويلة نمتنع فيها عن التعامل مع مشاكلنا. أعتذر إذا كان ما أقوله فيه بعض الغموض، وأنتقل فورا للمزيد من الإيضاح عبر كلمات الآخرين التي ربما تكون أكثر وضوحا مني؛ وخاصة ما كتبه المحرر في أكثر جرائدنا وقارا ورصانة («الأهرام» في 4 أغسطس (آب) 2011): «تحولت الشوارع والميادين في مختلف محافظات مصر إلى تظاهرة وعرس للديمقراطية المنشودة التي أفرزتها ثورة 25 يناير (كانون الثاني)، حيث امتلأت الميادين بالشاشات العملاقة التي التف حولها الكبار والصغار منذ الصباح الباكر لمتابعة البث المباشر لمحاكمة الرئيس السابق ونجليه علاء وجمال وحبيب العادلي وزير الداخلية الأسبق و6 من مساعديه في قضية قتل المتظاهرين وإهدار المال العام. وكانت السمة المشتركة التي جمعت تلك الأعداد الكبيرة من المواطنين الذين التفوا حول شاشات العرض العملاقة هي حالة الفرح والسعادة والهتافات للعدالة والمطالبة بالقصاص من قتلة المتظاهرين ورموز الفساد الذين اغتصبوا قوت الشعب».. ياه.. الفرح والسعادة؟ بماذا سيشعر المصريون إذن عندما يتمكنون من إطعام أنفسهم، وتسديد ديونهم، واسترداد أموالهم المنهوبة؟ واستصلاح صحراواتهم وإعدادها للزراعة، بماذا سيشعرون عندما يدخلون في منافسة مع الصين وبلاد شرق آسيا؟ بماذا سيشعر المصريون عندما يتمكنون من القضاء على الأمية؟

إدامة حالتي «الفرح والسعادة» بغير مبرر حقيقي هو بالضبط ما أخشاه، لأنه دليل على عدم الرغبة أو العجز عن مواجهة تحديات السياسة والاقتصاد. محاكمة مبارك ورجاله ستستغرق أعواما طويلة، هذا هو ما يجب أن يعرفه الناس لكي لا تشترك في زفة لا توجد فيها ليلة دخلة. أهم ما يميز أي فرح هو ليلة الدخلة، أين هي في كل ما يحدث؟

خلاص.. لقد بدأت محاكمة مبارك ورجاله، ماذا بعد؟.. ما هو الطريق الذي ستمشي فيه مصر؟ ما هي المحطة الاستراتيجية البعيدة؟ هنا تبدأ مسؤولية النطق بالكلمات التي نسيها عدد كبير من الناس، عندما تذهب مع أسرتك إلى شباك التذاكر في محطة الأتوبيسات فعليك أن تعرف بوضوح إلى أين أنت ذاهب، وأن تعلن ذلك بوضوح لعامل التذاكر عندما يسألك: «رايحين على فين؟».

ليس من حقك أن تغني له: «رايحين ع البلد اللي تحقق أمل العشاق».

سيؤكد لك الجميع بأننا في طريقنا إلى محطة الحرية السياسية، بشرط ألا يتوقف قطارنا على محطة الحرية الاقتصادية، وهذه خرافة بالطبع بل ربما تكون كذبة من أعظم أكاذيب التاريخ، من المستحيل أن تعمل من أجل الحرية وفي الوقت نفسه تتوقف في مكانك عاجزا عن الحركة لخوفك من أميركا والغرب وإسرائيل والعرب أيضا، هذه بلاهة سياسية وربما تكون جريمة أيضا.

كل ما يحدث في محاكم مصر لا يهمني في شيء، لسبب بسيط؛ إنها بحد ذاتها لا تصنع واقعا جديدا قادرا على الاستمرار، ولكن حادث الهجوم على مركز شرطة وقتل ضابط وعدد من الجنود أمر يهزني من الأعماق. المدهش في الأمر والمخيف أيضا أن يظهر عقب الحادث مسؤول سياسي كبير ويخرج من جيبه كل مفردات النظام السابق وإعلامه، والمذيعة أيضا حريصة على السؤال الشهير: «إحنا عارفين طبعا يا فندم إن مصر مستهدفة.. لكن تفتكر مين المسؤول عن الحادثة دي؟».

فأجاب الإجابة المعتمدة الشهيرة وهي: «طبعا الإمبريالية العالمية، والصهيونية العالمية، وطبعا فيه كمان عدد من الدول العربية حريصة على ألا نتمتع بالديمقراطية، لأنهم يعرفون إن مصر الديمقراطية حاتكون حاجة تانية خالص».

طبعا كان من السهل على الرجل أن يقول: «التحقيقات ما زالت جارية حتى الآن، وعندما نصل إلى معرفة الجناة فسنقدمهم إلى المحاكمة».

غير أنه لم يفعل وفضّل بدلا من ذلك أن يركب طائرة ويحلق بها فوق واشنطن وتل أبيب والعواصم العربية بحثا عنهم. هو في حقيقة الأمر ليس مهتما بالقبض عليهم، هو فقط يريد أن يكون من أبطال الكاميرات المحاربين بغير حرب ضد الإمبريالية.. و.. و.. و.. إلخ.. إلخ..

تتعالى الصيحات الثورية الآن مطالبة بالتطهير، أي تطهير حكومة مصر ومرافقها ومؤسساتها من رجال النظام السابق، هذا عن البشر.. ماذا عن مفرداتهم؟ ماذا عن مناهجهم في التفكير؟ ماذا عن تكويناتهم النفسية التي تجعلهم يضحون بالحقيقة والعقل من أجل المزيد من الشعبوية؟