الدين والديمقراطية

TT

الإرهابي النرويجي الذي قام بالهجوم على تجمع شبابي لحزب نرويجي يساري بدا بالنسبة للكثيرين بمثابة صدمة. فبعد زمن طويل اعتاد فيه الإعلام أن يتداول وينشر صورة نمطية عن الإرهابي بوصفه شرق أوسطيا ملتحيا ومتجهم الوجه ويعتمر عمامة أو غطاء للرأس. الصدمة كانت في أن الإرهابي النرويجي مثل خروجا عن هذه الصورة النمطية وبالتالي تحديا لصناعة إعلامية وفكرية وسياسية كانت قد اكتسبت زخما كبيرا منذ هجمات 11 سبتمبر، والتي جعلت من الإرهاب والتطرف الإسلامي مترادفين، ثم حولت كل إسلامي إلى مشروع إرهابي، ثم انتهت إلى توصيف المجتمعات التي يحظى الإسلاميون فيها بشعبية وقبول اجتماعي بأنها حاضنة للإرهاب، وكانت هذه الفكرة واحدة من الأعمدة التي قام عليها الاعتقاد بأن الإسلام والديمقراطية لا ينسجمان. هذا المنطق لم يكن بالتأكيد مستندا إلى رؤية علمية وتحليل موضوعي بقدر ما كان منسجما مع أجندة تيارات مسيطرة أرادت توظيف هذه الصورة الدعائية الساذجة أولا لتحقيق غايات سياسية من بينها قبول فكرة الاستثناء العربي القاضية بعدم صلاحية منطقتنا للديمقراطية، وثانيا لأنها كانت تغطي على جهل راسخ بالمجتمعات العربية والإسلامية لا سيما في أميركا، وأريد لهذه الصورة التبسيطية أن تعوض النقص الشديد في فهم تعقيدات تلك المجتمعات وبناها الثقافية.

لكن تحدي هذا المنطق الذي روجت له بشكل خاص الأحزاب اليمينية المتطرفة في الغرب، جاء من شخص يميني متطرف دون أن يقصد ذلك. فهذا الإرهابي قدم نفسه كمدافع شرس عن المسيحية والقيم الغربية وقام بعمله باسم الدفاع عن الحضارة الغربية وجذورها المسيحية - اليهودية، الأمر الذي يفترض بمن استخدموا منطق أن الديمقراطية والإسلام لا ينسجمان، أن يسألوا أنفسهم فيما إذا كانت الديمقراطية والمسيحية لا تنسجمان أيضا!!

من الواضح أن مقولة عدم انسجام المسيحية والديمقراطية هي مقولة خاطئة بدليل أن أغلب ديمقراطيات العالم العريقة ومنها الديمقراطية النرويجية موجودة في مجتمعات غالبية أفرادها مسيحيون، ولكن بنفس النهج لا بد من القول إن مقولة عدم التجانس بين الإسلام والديمقراطية هي بدورها مقولة خاطئة، وبالمثل مقولة عدم تجانس الهندوسية أو البوذية أو أي ديانة أخرى مع الديمقراطية. بمعنى آخر، الديمقراطية هي نظام سياسي هدفه تحقيق أكبر قدر ممكن من العدالة في إدارة المجتمع، وبالتالي ليس من الضروري لها أن تكون متجانسة أو متناقضة مع الدين الذي يلعب دورا اجتماعيا مستقلا وقابلا للاستمرار مع أو من دون الديمقراطية.

هنا قد يقول البعض بأن كثيرا من الإسلاميين رفضوا الديمقراطية، إما لأنهم قرنوها بالعلمانية أو لأنهم يعتقدون أنها نظام غير إسلامي، والجواب عن ذلك أن الإسلاميين ليسوا هم الإسلام، كما أن الإرهابي النرويجي ليس هو المسيحية، وما يقوله الإسلاميون اللاديمقراطيون ليس بالضرورة هو التفسير الصحيح لموقف الإسلام، ولا هو بالضرورة ما يعتقده إسلاميون آخرون مقتنعون أن الديمقراطية هي ممارسة سليمة. محاولة المطابقة بين الإسلام والإسلاميين هي طريقة مفضلة لدى نفس اليمين الغربي المسيحي الذي أراد توظيف كل الأفكار الراديكالية التي يقولها إسلاميون متطرفون ليجعلها مقولات عامة تنطبق على الإسلام، وبالتالي على المجتمعات الإسلامية كوسيلة لتقديم الأخيرة بوصفها غير جاهزة للديمقراطية.

الإسلام ككل ديانة أخرى ليس أيديولوجية سياسية، على الأقل بالمعنى الحديث للأيديولوجية، وقد آن الأوان ليعترف الجميع بأنه بقدر تعلق الأمر بالأبعاد السياسية وبنظام الحكم وبالدولة الحديثة، فإن الإسلام قدم مبادئ عامة ولم يضع نظاما، وإن كل المحاولات التي وضعت لصياغة نظام إسلامي، سواء من قبل مفكرين وكتاب إسلاميين سنة مثل محمد قطب أو حسن البنا، أو مفكرين ورجال دين شيعة مثل محمد باقر الصدر والخميني، ليست سوى اجتهادات حول ما يمكن أن يكون عليه النظام السياسي الإسلامي، وهي بوصفها هذا، صياغات بشرية مثلها مثل الديمقراطية ومثل أي نظام سياسي آخر، وبالتالي هي قابلة للنجاح أو الفشل، للصعود أو الهبوط، وهي مثل أي نظام آخر، قابلة للتحول إلى ديكتاتورية لأقلية أو لفرد واحد، أو التطور إلى نظام أكثر عدالة وتمثيلا.

لقد بدأت الحركات الإسلامية في مراجعة خطاباتها التقليدية الرافضة للديمقراطية، بل وباتت أكثر قناعة بأن الأخيرة قد تخدم الإسلاميين أكثر من غيرهم من حيث أن هناك سلوكا انتخابيا وتصويتيا عاما في المنطقة يصب في مصلحتهم. يمثل ذلك خطوة مهمة للأمام، ولكنها مشوبة بعيب قوامه التصور بأن الديمقراطية هي مجرد نظام لحكم الأغلبية، وبالتالي قد تعني استبداد الأغلبية، وهو ما يمثل وصفة سهلة لأن تتحول الانتخابات والديمقراطية إلى سبب في تعميق شروخ اجتماعية مع أقليات دينية غير مسلمة، يصبح بموجبها النظام الديمقراطي منتجا للتطرف الديني بدلا من أن يكون وسيلة لعلاجه وتخفيفه.

من هنا تأتي الدعوة في مصر إلى الاتفاق على مبادئ فوق دستورية، كمحاولة لوضع تعريف مجمع عليه للديمقراطية يضع حدودا لما يمكن للأغلبية السياسية أن تقوم به من تغييرات. البعض يرد على مثل هذه الدعوة بالقول إن مثل تلك المبادئ فوق الدستورية تفتقد للشرعية لأنها إذا ما وضعت قبل الانتخابات فإنها ستكون مبادئ تتفق عليها قوى غير منتخبة وبالتالي غير شرعية، ولذلك يصر الإخوان المسلمون في مصر مثلا على إجراء الانتخابات قبل أي شيء آخر، وهو ما يذكرنا بإصرار الإسلاميين في العراق على الانتخابات السريعة رغم بعض الاختلاف في الظروف والمنطلقات. إن الإسلاميين يراهنون على شعبيتهم الراهنة لكسب أي انتخابات قادمة وامتلاك أغلبية أو في الأقل قوة سياسية معطلة تجعلهم قادرين على وضع قواعد وأسس أي نظام جديد، وهم بذلك يتصرفون ببراغماتية عالية وليس للأمر علاقة بكونهم إسلاميين، فلو كان الشيوعيون أو الليبراليون من يمتلكون قوتهم اليوم لتصرفوا ربما بنفس الطريقة.

مع ذلك، فإن الرد على مثل هذا التحفظ يأتي بالقول إن الشعب يمكن أن يستفتى على المبادئ فوق الدستورية لتكتسب شرعيتها قبل أي انتخابات، والإسلاميون يردون بالسؤال: ما المانع إذا أجرينا انتخابات تفرز مؤسسة أو جمعية تتبنى هي وضع تلك القواعد وربما صياغة دستور جديد. يشبه هذا الحوار موضوع البيضة والدجاجة، لكنه حوار مهم جدا سأواصله في المقالة القادمة - بإذن الله - على خلفية الجدل الذي أنعشته تحولات المنطقة بخصوص العلاقة بين الإسلام والديمقراطية.