انحطاط الأمم بانحطاط القلم

TT

إن ما كتبته في مقالاتي الأخيرة له صداه بالنسبة لأوضاع هذه الأمة ومستقبلها، وإلا لما كتبته.

مصير الأمم في هذا العصر يتوقف، بصورة أساسية، على مجهودها الفكري في سائر الميادين. لا تملك اليابان أي مصدر للثروة غير السمك في البحر، لكنها تعتبر الآن من أغنى دول العالم وأكثرها تقدما ورفاها بعد أن كانت من أكثر دول العالم فقرا وتخلفا في القرن التاسع عشر. وكله يعود لنشاطها الفكري في سائر الميادين امتدادا من العلوم والتكنولوجيا إلى السينما والموسيقى.

وعندما نفكر بتفوق إسرائيل علينا، ينبغي أن ندرك أنها تنفق على البحث العلمي 32.2% من الناتج القومي، في حين أن ما ينفقه العالم العربي برمته لا يتجاوز 0.4% من الناتج القومي.

علينا أن نتذكر أن عدد الكتب المترجمة في اليونان، هذا البلد الصغير (نفوسه لا تتجاوز 12 مليون نسمة)، يبلغ 5 أضعاف ما يترجم في العالم العربي كله، البالغة نفوسه 370 مليون نسمة. وترتفع النسبة إلى 7 أضعاف عند المقارنة بإسبانيا.

وتذكر تقارير «اليونيسكو» أن نشر الكتب الجديدة في العالم العربي ينحصر في 28 عنوان كتاب لكل مليون مواطن، مقابل 600 عنوان لكل مليون مواطن في أوروبا. ولا يشكل إنتاج الكتب في العالم العربي كله غير 1.1% من الإجمالي العالمي.

يعود ذلك – إلى حد كبير - لقلة المردود أو انعدامه من امتهان البحث والتأليف والكتابة. قلما تعثر على مواطن عربي يكرس حياته لهذه المهن الخاسرة. سيموت جوعا. لا يوجد حافز للعمل الخلاق والإبداع. وهذا من أسرار انحطاطنا.

السبب الرئيس لهذا الفقر في الكتابة والنشر هو نسبة الأمية العالية وقلة اهتمام المتعلمين بالقراءة واحترام الكتاب. قُدر معدل قراءة المواطن الغربي بأنه يساوي 360 مرة معدل قراءة المواطن العربي. لا أدري إن كانوا قد أدخلوا في هذه النسبة قراءة الكتب الدينية.

وككاتب ممتهن، أشعر بأسى كبير عندما أسمع عن المبالغ الخيالية التي تُدفع كعطايا للمطربين والمطربات والراقصات، وتبخل أيدي الكرام عن دفع 10 دنانير أجرة لمقالة لكاتب غلبان قضى عدة أيام وربما عدة شهور في كتابتها. دعوني أقُلها بصراحة: إننا أمة لا تحترم العلم والمعرفة، أمة مفطورة على اللهو بالطرب ونظم الشعر والتفرج على المسلسلات الغرامية ولعب الدومينو والطاولة في المقاهي والهذرفة في أمور السياسة والمرأة والنكات الجنسية. وفي السنوات الأخيرة ظهرت أصناف جديدة من الانشغال يعرفها القراء ولا يجوز الكلام عنها أو مناقشتها.

هل سنتعلم ونعلم أولادنا حب المطالعة واقتناء الكتاب وجمع الكتب ونطور في أنفسهم غريزة الفضولية، غريزة السعي للمعرفة والاكتشاف والاستمتاع بالمطالعة كمتعة من متع الحياة؟ هل ستتعلم الأم العربية أن تقرأ لأطفالها شيئا من قصص الأطفال قبل نومهم؟ هل سيتعلم الأب العربي أن يفعل ما كان والدي، يرحمه الله، يفعله عند الصباح وهو يسلمني جريدته اليومية (البلاد) ويقول: اقرأ لي يا ابني ما كتبه فهمي المدرس هذا اليوم؟