قصص المدن العربية.. حب من طرف واحد!

TT

يستغرب الناس كيف يستطيع رجل مثل معمر القذافي أن يحافظ على قدرته على حشد هذا العدد الكبير من الموالين ليستمعوا له كلما طرأت عليه الثرثرة، رغم كلامه الفارغ، ورعونته، وفحش أنانيته، وسواد تاريخه معهم، وافتقاره لبلاغة التعبير، أو لنقل بلاغة التنفيس!

القذافي مختبئ، لا يملك الأمن لنفسه حتى يمنحه للآخرين، تهتز الأرض تحت قدميه، والعالم يتكالب عليه وحصونه تهوي من حوله، أي إنه فقد قوة السلطة التي كان الليبيون يضربون لها ألف حساب، كما أن أيامه قد قفرت من المجد بلا عودة. فما الذي يضطرهم إلى التجمهر لأجله؟

الجواب السريع لتفسير سلوكهم أنهم أقوام منتفعون منه ماديا، كما هو حال المنتفعين من بشار دمشق.

ولكن الجزء الأكبر من الجواب تجدونه في رائعة الروائي الإنجليزي تشارلز ديكنز غير المسبوقة وغير الملحوقة «قصة مدينتين». والمدينتان المقصودتان في الرواية هما لندن وباريس، وتقع شخوص الرواية بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حيث لا تزال تبرم حبال المشانق بمهارة حول الأعمدة الخشبية لمن يترفع عن السجود لمواكب القساوسة أو الملوك، وتنتزع بالكلاليب حناجر من يجرؤ على انتقاد ذوي النفوذ، وتسلخ أظافرهم من جلد أصابعهم إن خطت أيديهم ما ينتقص من هيبة وعنفوان الملك وزبانيته، فكانت تبتكر آلات التعذيب على نحو مرض لرجال الدين الغلاة أو الحكام الطغاة بأبشع ما يمكن لإنسان أن يتصوره، ظنا منهم أن مقدار ما يتمدد داخل صدور عامة الناس من ذعر هو الضامن لديمومة السلطان.

يصف أحد مشاهد الرواية كيف أن أحد البسطاء من عمال الطرق الفرنسيين الذي لا يكاد يجد قوت يومه من خبز أسود جاف دون أن يكدح كدحا طويلا، كان يبلغ منتهى سعادته في مطالعة وجوه النبلاء، من الملك والملكة وإلى آخر النبلاء درجة، رغم غطرستهم وصلافتهم وظلمهم وتقصيرهم الفاضح في حقوق رعيتهم. ينعشه خيلاء منظرهم، يبدو أنها نظرته الوردية للحياة، حين يشاهد أجسادهم تكتسي الحلل والحرائر وتنضح وجوههم بالعافية. فكان أن اتجه إلى فرساي في أحد أيام الآحاد ليستمتع بطلتهم، وما إن ظهر الملك والملكة والحاشية حتى ابتدرهم بالصياح بهجة بهم، وانتابته حال من الهياج والنشوة فظل يصيح بأعلى صوته داعيا لهم بطول العمر، ويطري عليهم بكلام عذب لا يليق إلا بالصالحين، وربما ذكرهم بخير ليس فيهم، حتى إن صديقا بجواره أمسك بتلابيبه خشية أن يطير من مكانه، وبقي على تلك الحال ثلاث ساعات، حتى انتهى بأن أفرط في انفعال البهجة فبكى!

وبعد أن هدأت نفسه، عاجله صديقه الذي كان يضمر شرا لزمرة النبلاء وملكهم بالقول: «إنك رجل طيب، أنت الشخص المطلوب، فأنت تجعل هؤلاء المجانين يعتقدون أن دولتهم سوف تستمر أبد الآبدين، وعندها سيسرفون في طغيانهم فيكون ذلك إيذانا بذهاب سلطتهم».

هكذا حكت رواية ديكنز في حال باريس، ولم تكن لندن بأفضل حالا، وذاك منذ زمن بعيد.

إلى أن كان من نوائب الدهر أنه في لحظة شروق نور النهضة غربا، انسحب الظلام شرقا، وحيث خلعت أوروبا ثياب الهمجية والتخلف والسلطوية ورمته بعيدا، لم يكن هذا البعيد إلا حضن البلاد العربية. ومع ما أخذوه العرب من الحضارة الغربية من أدوات للمدنية والرفاه لم ينسوا أن يتأبطوا منهم دليل المرشد في صناعة وسائل التعذيب وثقافة السراديب، التي جعلت ستالين يبدو بالمقارنة بهم كفاعل خير، وهتلر رجل سلام، وشارون طفل بأسنان لبنية.

مبارك.. لقد ولد للظلام مدن جديدة.. دمشق وطرابلس، حيث يعيش الناس إما في ذعر دامس ينتهي بالتنكيل أو القتل في رابعة النهار، وإما يتحولون إلى التملق والنفاق ليحيوا على هامش الحياة، لا إلى الأعلى ولا إلى الأسفل. أو كما هو صاحب الرواية الساذج الباكي، الذي ذرف العبرات حبا بالملك وحاشيته، ولم يعرف الملك وحاشيته بأمر عبراته وزفراته، بل لم يعرفوا أن هذا الكائن بعينه محسوب على الحياة، وقد كان الملك بجرأة المهيمن يزدريه وأمثاله في جلساته الناعمة البذخة، لأن ظهورهم كان له مصاعد إلى عرشه. لقد كان الكادح المسكين فاقدا لوعي الحقيقة، فاستكانت نفسه إلى الظل، والأطراف، والمؤخرة، واعتادت على الضآلة.

ولاء العامة الساذجة لطغيان صارخ الوضوح من الحاكم هو كالحب من طرف واحد.. موجع، مهين، ومثير للشفقة، ولا يحمل نهاية سعيدة. نوع من الوهم المخملي الجميل، يبدأ بالهتاف بحياة الطاغية وينتهي بأكل رغيف أسود وشرب ماء ملوث على قارعة طريق مليء بالحفر، إنه حب بلا أساس، وبناء لن يتحمل ثقل الأيام!

* كاتبة وأكاديمية سعودية - جامعة الملك سعود