الدولار واليورو يدفعان المستثمرين إلى التوجه نحو سويسرا

TT

اعتاد الدولار القوي الاستئثار بمكانة أكثر الملاذات العالمية أمنا في أوقات الشدة، لكن ماذا ينبغي أن يفعل المرء عندما يساوره القلق إزاء الدولار، مثلما الحال مع كثيرين الآن؟ عليكم التوجه لسويسرا. يتدفق طوفان من الدولار واليورو على هذه الدولة المحتضنة لجبال الألب بمعدلات قياسية، في وقت ينظر المستثمرون فيه لسويسرا باعتبارها ملاذا آمنا من أزمتي الديون المتزامنتين في الولايات المتحدة وأوروبا.. إلا أن السويسريين غير سعداء بهذا الأمر.

أعلن المصرف المركزي السويسري يوم الأربعاء الماضي، أن العملة السويسرية «تضخمت قيمتها على نحو «هائل» أمام الدولار واليورو، ولجأ على نحو غير متوقع لتقليص معدلات الفائدة في محاولة لإلحاق الضعف بالفرنك. وبالفعل، تراجع الفرنك قليلا، لكنه لا يزال متمتعا بقوة مفرطة، من المنظور السويسري.

عن ذلك، قال مصرفي في جنيف كشف عن اسمه الأول فقط، ديمتري، مصرا على التحفظ الذي يمثل علامة مميزة لهذه البلاد: «الفرنك أشبه بالذهب الجديد. إن الأمر جنوني والجميع يتحدثون عما يجري في الصباح وحول مآدب الغداء وفي حفلات العشاء».

المؤكد أن هذا الأمر كان القضية الأولى خلال ساعة الغداء ظهيرة أحد الأيام مؤخرا في جنيف، عندما خرج ديمتري برفقة عدد من المصرفيين الآخرين من أبواب مصارف «كريدي سويس» و«يو بي إس» و«غولدمان ساكس» والعديد من المصارف الثرية الأخرى الواقعة بالقرب من بحيرة جنيف، وذلك لتناول الأسماك وتبادل أطراف الحديث حول أحدث المستجدات. وسويسرا كثيرا ما يجري التباهي بكونها دولة جاذبة للأموال نظرا لحساباتها المصرفية السرية ونشاطات التهرب الضريبي بها، علاوة على كونها موطن «الفرنك القوي»، وهي العملة التي جرى النظر إليها طويلا باعتبار أنه لا يسبقها من عملات العالم سوى الدولار نظرا لأن سويسرا - على خلاف الكثير من الدول الأخرى - تحرص على تنظيم أوضاعها المالية باستمرار. الآن، لم يعد الفرنك في المرتبة الثانية.

رغم تمرير الاتفاق الذي طال انتظاره في واشنطن لرفع سقف الدين الأميركي، فإن الدولار تراجع مؤخرا إلى مستويات قياسية أمام الفرنك السويسري جراء مخاوف من إصابة الاقتصاد الأميركي بمزيد من التباطؤ.

وحتى بعد الإعلان الصادر عن المصرف المركزي السويسري، جرى التعامل في الدولار عند مستوى 77 سنتيم سويسري، بانخفاض إلى قرابة ثلث المستوى الذي كان عليه منذ عام. وجاء أداء اليورو أفضل قليلا، ومع استسلام أوروبا العام الماضي لمشكلاتها المرتبطة بالديون، انطلق الفرنك أمام اليورو. الآن، أخفقت آخر دفعة من المساعدات الأوروبية لليونان في اليونان في حماية دول كبرى مثل إيطاليا وإسبانيا من انتقال عدوى المصاعب الائتمانية إليها، ولا يزال الفرنك قويا أمام اليورو.

رغم الخطوة التي اتخذها البنك المركزي السويسري الأربعاء الماضي، التي اشترى فيها اليورو بـ1.10 فرنك سويسري، فإنها تعد أقل كثيرا عن مستوى 1.38 فرنك سويسري مقابل اليورو الذي كان قائما منذ عام. ومع الفوضى الاقتصادية التي تعتمل بها باقي أرجاء العالم، تبدو سويسرا محتفظة بهدوئها. ورغم شبكة الأمان والضمان السخية، فإن هذه البلاد لا تتحمل نفقات ضخمة، كتلك التي يتطلبها وجود مؤسسة عسكرية ضخمة. ويقدر الفائض في حسابها الجاري بـ15% من إجمالي الناتج الداخلي، بجانب ديونها الضئيلة. العام الماضي، نما اقتصادها بمعدل 2.6%، وتبلغ البطالة قرابة 3%. ومع ذلك، فإنه في الوقت الذي يسهل فيه على سويسرا اجتذاب أموال الآخرين، فإن البعض ربما بدأ السأم يخالجهم حيال الأمر، بمن في ذلك السويسريون.

وسعى المصرف المركزي السويسري لتقليص الطلب، الأربعاء، عبر تضييق هدفه للمعدل الجوهري، «ليبور» لثلاثة أشهر، إلى 0.00 - 0.25% من 0.00 - 0.75% لمحاربة ارتفاع قيمة الفرنك. وأعلنت السلطات أنها «لن تتساهل» إزاء «تشديد الشروط المالية»، وأنها ستتخذ الخطوات الضرورية لكبح جماح ارتفاع الفرنك. والملاحظ أن تكلفة السلع سويسرية الصنع، التي تتنوع بين الساعات وآلات شديدة الدقة، ارتفعت بشدة، الأمر الذي دفع شركات سويسرية لإطلاق تحذيرات.

في هذا الصدد، قال توماس كريستين، الرئيس التنفيذي لشركة «ريد إلكترونيكس»، ومقرها لوسيرن: «هذا أمر سيئ للاقتصاد السويسري». يذكر أن كريستين شرع في شراء مواد أرخص لتقليص التكاليف.

الملاحظ أن كل شيء في سويسرا؛ بدءا من قدح القهوة وصولا إلى عطلة للتزلج على جليد جبال الألب، ارتفعت أسعاره لأقصى مستوى ممكن وأصبح خارج متناول الكثير من السائحين.

على سبيل المثال، صدم مارك تومبكينز وسيرينا كوينغ، من بوسطن، خلال زيارة أخيرة لهما إلى سويسرا، وأوضح تومبكينز السبب بقوله: «تراوح سعر شراب مختلط داخل حانة عادية بين 18 و20 فرنكا سويسريا. وبذلك كان سعر مجموعتين من المشروبات لأربعة أفراد جنونيا». في قلب مدينة جنيف، حيث تلمع واجهات المحال بمعروضات من الألماس والذهب، قال جان ليوشو إن وتيرة نشاطه التجاري مع الأميركيين والأوروبيين تباطأت.

وأضاف ليوشو الذي يملك متجر «ليوشو آند سي»، المتخصص في بيع ساعات «تي إيه جي أور»: «خلال 32 عاما، لم أشهد فترة كتلك على الإطلاق. وفي غضون أشهر قلائل سيزداد الأمر سوءا»، بل إن واحدا من عملائه الأوروبيين القدامى، وهو مليونير يملك طائرة خاصة، أخبره مؤخرا أنه سيرجئ شراء ساعة غالية السعر حتى تتراجع قيمة الفرنك لمستوى مناسب. وقال ليوشو بينما مرت من أمامه سيارتين «فيراري» فضية وأخرى «بنتلي» سوداء: «يملك الناس المال، لكنهم لا يشترون شيئا».

في المقابل، يقبل السويسريون بنهم على شراء الكثير من السلع؛ وإن كان هذا لا يخدم بالضرورة مصلحة اقتصاد بلادهم. في عطلات نهاية الأسبوع، تقود أسر سويسرية سياراتها إلى داخل فرنسا لشراء كميات ضخمة من الخمور والطعام وسلع أخرى من المراكز التجارية الضخمة، حيث يمكنهم شراء أي شيء بالفرنك القوي.

وعلق كيث روكويل، المتحدث الرسمي باسم منظمة التجارة العالمية، والذي عاين صعود وهبوط سويسرا على مدار أكثر من عقد، بقوله: «ساحات السيارات مليئة بسيارات تحمل لوحات معدنية سويسرية».

في تلك الأثناء، تقف المراكز التجارية المحلية الكبرى مثل «كوب»، التي تعج أرففها بمنتجات مصنوعة خارج سويسرا، خالية نظرا لأن تكاليف التسوق أرخص في مناطق أخرى. وبسبب ما ساوره من قلق، طلب المتجر من الحكومة مؤخرا التحقيق في الأسباب وراء عدم تمرير المستوردين المدخرات التي جنوها من وراء شراء سلع مسعرة باليورو.

وتتحسر الصحف باستمرار على «الفرنك القوي» وتحذر من أن الأسوأ لم يأت بعد. الشهر الماضي، عندما سألت «تريبيون دو جنيف» القراء في استطلاع أجري عبر شبكة الإنترنت عما إذا كان الموقف أصبح مثيرا للقلق، ردت الغالبية بالإيجاب. من جهته، قال ييفيز بونزون، رئيس شؤون الاستثمار لدى «بيكتي آند سيتي»، وهو مصرف خاص مقره جنيف، متحدثا عن العملة: «نحن في طبقة ستراتوسفير الآن»، ويقدر أن الأضرار التي ستحلق بالاقتصاد تكافئ الأضرار التي تترتب على رفع المصرف المركزي السويسري معدلات الفائدة من 1% إلى 7% فجأة. عندما شرع الفرنك في الارتفاع للمرة الأولى أثناء الأزمة المالية العالمية، انتابت المصرف المركزي السويسري، الذي يدير شؤون العملة، حالة من الذعر. وأهدر 19 مليار فرنك بين عامي 2009 والعام الماضي في إطار استراتيجية فاشلة للإبقاء على النظام على صعيد العملة. (وخسر المصرف 10.8 مليار فرنك إضافية في ممتلكات من النقد الأجنبي خلال الأشهر الستة الأولى من هذا العام.) يذكر أن المصرف امتنع، الأربعاء، عن التدخل، لكنه لمح إلى استعداده فعل المزيد. وقال والتر ميير، المتحدث الرسمي باسم المصرف المركزي الأسبوع الماضي: «يبدو أن هناك إجماعا حول أنه ربما يصل الفرنك السويسري لمستوى 1.30 أو 1.40 أمام اليورو، لكن التاريخ كشف من قبل أن مثل فترات التخمين هذه ربما تستمر مدة طويلة».

ورغم أنه كانت هناك شماتة سويسرية صامتة تجاه الدول التي انضمت إلى الاتحاد الأوروبي، فإن بعض السياسيين دعوا هنا مؤخرا لربط الفرنك باليورو. ومع ذلك، لا يبدو أن هناك أفكارا محددة للتحرك قدما على هذا الطريق، بخلاف الأمل في أن تتحسن الأوضاع المالية في أوروبا والولايات المتحدة.

وعلق ميير على ذلك بقوله: «هذا هو أفضل سيناريو مرغوب، لكننا لا نعلق آمالنا عليه. يجب الاستعداد للأسوأ، وإذا تحسنت الأمور يمكن الاستفادة حينها».

* خدمة «نيويورك تايمز»