في أصولية محاكمة مبارك

TT

محاكمة الرئيس المصري السابق فرضها شباب الثورة المعتصمون في ميدان التحرير على السلطات الحاكمة، وعلى القضاء المصري، فرضا. فهي، إذن، محاكمة سياسية مائة في المائة، كلف القضاء الجنائي العادي بإجرائها. مهمة المحكمة الجزائية العادية لن تكون سهلة نظرا لتشابك، بل وتناقض، صلاحيات القضاء الجزائي العادي مع الأحكام الدستورية العامة، المتعلقة بمحاكمة الرؤساء والوزراء، أمام محاكم عليا أو استثنائية، بتهم خرق الدستور أو الخيانة أو جرائم الحرب أو جرائم ضد الإنسانية. وليس أمام محكمة جزائية عادية.

ولنترك للقضاة والمحامين المصريين حق وحرية إدارة هذه المحاكمة التي بدأت ولا بد أن تنتهي بحكم ما، قد يرضي الضمير ولا يرضي الشعب الذي ثار، أو العكس. والتاريخ وحده، وبعد سنوات وأجيال، هو الحكم الأخير على المحكوم عليهم وعلى من حاكمهم وحكم عليهم. ولنتساءل مع كثيرين: هل كانت هذه المحاكمة ضرورية؟ وبهذا الشكل؟ وهذه السرعة؟ وهل سيكون لها ولما قد تلفظه من حكم، تأثير على الحياة السياسية في مصر والعالم العربي، حيث لا تزال الانتفاضات الشعبية قائمة في أكثر من بلد؟ وعلى مستقبل الديمقراطية السياسية التي يتطلع إليها الشعب المصري والشعوب العربية، أو يتمناه العالم لها؟

لا شك في أن صورة الرئيس المصري السابق الذي حكم مصر 30 عاما، وراء قضبان قفص المحكمة، تشكل عبرة لكل الرؤساء والحكام الذين يحكمون الشعب سلطويا ويمنعون عنه الحرية دون أن يوفروا له العيش الكريم والعدل والأمل، فيثور عليهم هذا الشعب ويسقطهم ويحاكمهم. ولكنها، من جهة أخرى، قد تدفع هذه الصورة الحكام الذين ما زالوا يواجهون ثورة شعبية، ويقاومونها بالنار والحديد، إلى مزيد من القمع والعنف، تلافيا لمصير شبيه بمصير حسني مبارك.

قياسا بـ«المحاكمات الثورية» التي عرفتها الثورات الفرنسية والروسية والصينية في القرون السابقة، أو محاكمات المهداوي والخلخالي في العراق وإيران، في العقود السابقة، تبدو محاكمة الرئيس السابق لمصر أمام القضاء العادي، أرحم وأضمن عدالة. ولكن هل كانت هذه المحاكمة ضرورية لانطلاق الفجر الجديد في مصر؟

إنه أمر طبيعي أن ينقسم الرأي العام في مصر وخارجها حول هذه المحاكمة. فيرى البعض فيها «عبرة» يتعظ بها الحكام الذين يسيئون الحكم أو يقهرون شعبهم. ويرى آخرون فيها عملية ثأر أو تشف إرضاء لذوي ضحايا عهد مبارك وشهداء الانتفاضة الثورية. وآخرون، يرونها خطوة ضرورية تمهيدية لكشف ارتكابات ومخالفات ومظالم الحكم الذي ثار الشعب عليه، ولتبرير شرعية هذه الثورة. ولكن الوصف الحقيقي والصحيح للمحاكمة، وبالتالي الحكم عليها، سيكون على مجراها. أي في مدى ثبوت الأدلة على التهم الموجهة للجالسين في قفص الاتهام، ومدى السماح لهم ولمحاميهم بكل حقوق الدفاع، الشكلية والأساسية. ونظرا لسمعة القضاء المصري الرفيعة، فإن إحالة قضايا محاسبة ومحاكمة الرئيس مبارك ورجاله وعهده أمام هذا القضاء - وليس أمام محكمة ثورية أو استثنائية – قد يحمل معه ضمانات عدلية للجميع. مع العلم أن محاكمة عادلة في قضية بمستوى خطورة وشمولية هذه القضية تتطلب، عدليا، شهورا للفصل النهائي فيها.

إن محاكمة الرئيس السابق وابنيه وأعوانه، جاءت تلبية لمطالب الثوار وعائلات شهداء الثورة والمتضررين في عهده. وكل الثورات في التاريخ التي نجحت في تغيير الحكم بدأت عهدها بمحاكمة رموز النظام الذي أسقطته. وبمقدار ما روعيت في هذه المحاكمات أصول العدالة والشرائع والقوانين، كان حكم التاريخ على أخلاقيتها ونفسيتها ونيات الذين رفعتهم إلى الحكم.

هذه المحاكمة ليست سوى صفحة من بين الصفحات العديدة المفتوحة أمام العهد الجديد في مصر، بل وفي العالم العربي. فالأشخاص رموز عابرة. وأشكال الحكم، على أهميتها، تظل ثانوية أمام التحديات الكبرى التي تواجه الشعوب العربية والإسلامية في مطلع هذا القرن الحادي والعشرين. ثم إن مصر ليست دولة عربية ثانوية أو هامشية، بل هي قلب العالم العربي ورئته، ومن سيحكم مصر بعد اليوم، والشعارات التي سيرفعها، والسياسة التي سيتبعها، سوف يكون لها دور وتأثير كبيران في مستقبل العرب والعروبة والإسلام.