كل هؤلاء العباقرة!

TT

أنا لم أعرف الشعراء الرومانسيين محمود حسن إسماعيل والهمشري وصالح جودت إلا عن طريق الشعراء الرومانسيين في أوروبا: لرمنتوف الروسي.. ونوفالس الألماني.. وليوباردي الإيطالي.. ودميسيه الفرنسي وشيللي الإنجليزي.. قرأت لهم ووجدت عندهم ما أريد واتجهت إلى أمثالهم في لغتنا العربية.. فأحببت الأوروبيين.. وأفسحت مكانا في قلبي للمصريين..

ولم أستطع أن أحب ابن الرومي رغم إعجاب العقاد به..

وإنما أحببت وأعجبت بالشاعر العظيم في كل العصور: المتنبي.. فهو عبقرية أفسدتها الأخلاق.. أو فاسد الأخلاق.. وبهرني عدد من المؤرخين الأجانب.. بهرني الأديب الفرنسي أندريه موروا وقدرته الفذة على تحليل الشخصيات..

إن العقاد أبرع منه في معرفة ملامح الشخصية التي سوف يدرسها.. ولكن العقاد بارع في صناعة مفاتيح الشخصية.. إنه يعطيك مفتاحا صغيرا جدا.. في عبارة واحدة.. وبسرعة تتفتح لك أسرار هذه الشخصية وإذا بك في أعماق أعماقها.. فالعقاد مهندس إلكتروني لا يطلعك على سر اهتدائه إلى هذا المفتاح.. وهو يفضل أن يبهرك بأن يقوم بدور «الحاوي» الذي تصفق له.. لأنه يحب أن يكون شخصا معجزا.. فيجعلك تراه خارقا للعادة!

ولكن أندريه موروا يعطيك مفاتيح كثيرة.. ومداخل عديدة.. وهو يصطحبك معه.. وتدور حول الشخصية وتستمع إليها.. وإلى الناس حولها.. ومن كلام الشخصية وحديث الناس.. وبين محبتهم له.. وكراهيته لهم.. وبين القصص والنوادر والفواجع تعرف الطريق إلى القلب وإلى العقل.. وإذا كان العقاد مهندسا، فأندريه موروا قارئ كف.. قارئ فنجان.. ضارب ودع.. قصاص أثر.. مفسر أحلام.. ولذلك فأندريه موروا أروع وأجمل وأمتع.. وشخص آخر أسعدني أن أعرفه إنه الكاتب الأميركي الرائع: ول ديورانت.. فليس في اللغة الإنجليزية كلها شخص له عظمة وجمال وسحر هذا الرجل وزوجته.. فقد اشتركا معا في مؤلفاتهما الأخيرة.. ولكن ول ديورانت انفرد بالأعمال الرائعة وحده.. قصة الفلسفة الحديثة.. وقصة الحضارة.. ومناهج الفلسفة.. ودروس في التاريخ.. ثم ترجمة حياتنا.. أي حياتهما الاثنين معا!

فهذا الرجل ديورانت قد أوتي من العلم والأدب والذوق ما لم يؤته أحد في عصرنا.. ولذلك فهو مثل أعلى في الكتابة.. ومثل أعلى في اتساع النظرة وفي القدرة على الصياغة الأدبية.. فأنت عندما تقرأ لا تعرف إن كان هذا الذي تقرأه أدبا أو تاريخا أو فنا أو رسما أو موسيقى – إنها جميعا! وكثيرون غيره كانوا هداة صادقين بارعين لكل أبواب ودروب وأغوار وقمم الحضارة الغربية!