نهاية الدولة الفرعونية!

TT

في ورقة صغيرة نشرتها في شهر يناير (كانون الثاني) 2006 تحت عنوان «مدخل للتغيير» (Prelude to Change) في جامعة برانديز الأميركية قادني التحليل إلى أن مجموعة التعديلات الدستورية التي أجرتها مصر ما بين عامي 2005 و2006 يمكن أن تشكل بداية النهاية للدولة الفرعونية في مصر. كان تعبير «الدولة الفرعونية» شائعا في الكتابات السياسية عن مصر، التي أخذت عناوين كثيرة من «نمط الاستبداد الآسيوي» إلى «الدولة النهرية» وحتى وصلت إلى «البيروقراطية العسكرية»، وأيا كانت هذه العناوين فإن جوهرها هو تركيز السلطة في يد واحدة محاطة بمجموعة من الأشخاص الذين يديرون الدولة بأكملها.

وكانت الفكرة التي طرحتها في ذلك الوقت هي أن التعديلات الدستورية بطرحها انتخاب رئيس الجمهورية من بين أكثر من مرشح، رغم ما كان مضمونا آنذاك من فوز حسني مبارك بمنصب الرئاسة، وأن من حوله من المرشحين لا يزيدون عن كونهم «ديكورا» للشكل الديمقراطي للعملية الانتخابية، فإن هذا الاستكمال للشكل الديمقراطي مع أمور أخرى كان يعني أن ينزل الفرعون إلى الشارع، ويعرض برنامجا، ويتعرض للنقد هنا وهناك حول أساليب إدارته السياسية والاقتصادية. وبعد سنوات كانت البذرة التي وضعت في ذلك الوقت قد أينعت، حتى إن برلمانا موازيا للبرلمان المصري انعقد رافضا للسياسات الحكومية، وما كان من الرئيس آنذاك مبارك إلا أن قال كلمته الشهيرة: «خليهم يتسلوا»، وكان معنى ذلك أن الرجل فقد الصلة بما يجري، وأن شرعيته، وشرعية نظامه السياسي باتت على المحك. وببساطة لم يعد الفرعون إلها، ولا فرعونا، وفقدت سلطته شرعيتها، حتى جاءت ثورة يناير فإذا بسلطانه يسقط كما تسقط أوراق الخريف.

سقط مبارك ومعه الدولة الفرعونية، وكان أنور السادات قد قال إنه سيكون آخر الفراعنة، إلا أنه لم يكن يعرف أن فرعونا آخر كان بوسعه أن يظل في الحكم ثلاثين عاما بعده حتى بات أكثر حكام مصر حكما منذ محمد علي مؤسس مصر الحديثة كما جرى القول. ولم تكن ثلاثين عاما سهلة من الحكم، فقد واجه فورا خلال عقد الثمانينات دولة مفلسة تقريبا، وبعدما وجد أن السياسات الاقتصادية السابقة لا تجدي وبدأ مع التسعينات إصلاحات اقتصادية حقيقية بدأت مصر في الخروج من عثرتها الاقتصادية تدريجيا. ومن عجب أن الخروج من العثرة هذا كان بداية ظهور جيل الشباب، واتساع الطبقة الوسطى، وظهور الفرص الاقتصادية، وثورة الإعلام المصري الذي لم يجد له وظيفة سوى نزع الشرعية عن الفرعون الذي لن تفلح محاولات اغتيال في اغتياله، إلا أن النظام الفرعوني كان يولد كل يوم حادثة تشير إلى فشل في الحكم وعجز عن السيطرة. وكانت أحداث الفتنة الطائفية، ومعها حوادث كبرى مثل العبارة الغارقة ومعها ألف من المصريين ربما أول النذر، ولكنها لم تكن آخرها. وكانت المصيبة الكبرى أن النظام بات ضاحكا على نفسه، مزيفا للحقائق التي تهمه، مقاوما للكشافات والحقائق التي ربما أعطته عمرا إضافيا. ويكفي تذكر أنه قبل يومين من الثورة المصرية في 25 يناير، وفي ذات القاعة التي بدأت فيها محاكمة مبارك، جرى الاحتفال بعيد الشرطة والكذب على الجمهور بالقبض على المجرمين في حادث كنيسة القديسين المشؤوم في ليلة رأس السنة. ولا أدري ساعتها لماذا شعرت أن الرئيس لم يكن مصدقا للمعلومات التي أتت إليه، ولكنه ربما بحكم العادة، وبحكم استكمال صورة الاحتفال، لم يجد مشكلة في تهنئة رجال الشرطة، واللواء حبيب العادلي على الجهد الخارق في الكشف على الجناة. وعندما تضحك الدولة على نفسها وتزيف الحقائق على ذاتها فإن ذلك يعني تآكلها وتعفنها، وكان ذلك هو ما قاد مبارك إلى قاعة المحكمة يوم الثالث من أغسطس (آب) الحالي.

ظهر مبارك في المحكمة على عكس كل التوقعات التي سادت وشاعت في القاهرة أن الرجل لن يظهر أبدا. كان هناك سبب منطقي وهو أن صحة الرجل لا تسمح، وكان هناك أسباب جرت حسبما رأى الرواة، فهو يعيش صفقة مع المجلس العسكري حين نقل لهم السلطة مقابل الأمان في مدينة شرم الشيخ تحت مسميات شتى. وكان هناك على أية حال من تصور العفو عن الفرعون مقابل التنازل عن أمواله، وكان هناك حالة حيرة لمحامٍ تصور فيها أن مبارك قد توفي منذ زمن في عام 2006 ولذا فإن ظهور البديل في قاعة المحكمة ربما كان مدعاة لظهور الفضيحة.

كل ذلك ليس مهمّا، فقد جاء آخر الفراعنة إلى المحكمة، وتصرف كما يتصرف المتهمون، وكما يجب عليه أن يفعل فقد أجاب على القاضي عند نطق اسمه «أفندم، موجود». كان الفرعون السابق يقول للقاضي «أفندم» بعد أن كان رئيسا للمجلس الأعلى للقضاء قبل شهور قليلة. وفي كلمة انتهت واحدة من أهم خصائص الدولة الفرعونية وهي أن يكون الرئيس، أو الملك، أو الخديو، أو الوالي، أو الفرعون باختصار، رئيسا للمجالس العليا للقضاء والشرطة والقوات المسلحة وعشرات المجالس الأخرى التي أشك شخصيا أن محمد حسني مبارك يتذكرها.

دخل حسني مبارك رئيس جمهورية مصر العربية السابق إلى قفص الاتهام راقدا على سرير المرض ومعه ولداه اللذان وقفا طوال الجلسة، ربما للحماية، وربما لحجب عدسات التصوير، وعلى أي الأحوال لم يكن هناك كرسي موضوع لهما حتى يجلسا إذا أرادا. ولكن الأمر كله كان فيه دراما من النوع الثقيل، وبشكل ما فإن قاعة المحاكمة باتت مركزا تلتف حوله الجغرافيا المصرية وتميل، ومحورا للتاريخ المصري يضع بداية جديدة. هل هذا ممكن حقا أن «الفرعونية» داء أو حقيقة موضوعية غير قابلة للزوال، وأن ما نشاهده الآن هو بداية فرعونية جديدة ربما تأخذ اسما ورسما آخر، ولكنها في النهاية فرعونية؟ فقبل أيام من المحاكمة كان ميدان التحرير قد تغير، وولدت فيه بداية فرعونية دينية من نوع آخر، حيث غاب تماما كل ما له علاقة بالديمقراطية أو حتى البشر والبشارة بمصر مختلفة عن كل ما سبقها. وربما كان ذلك تشاؤما مبالغا فيه، ولا يريد أحد أن يسرق اللحظة من جلالها، ولكن الشواهد كانت دائما أن «الفرعونية» أكبر من الفرعون الذي قد يتآكل حكمه، وتنضب موارده، ويفسد أداؤه، ولكن مع ذلك فإن الجوهر يبقى على حاله يخلق مكوناته ويجددها ربما في أشكال جديدة ولكنها تظل على حالها في كل الأحوال. ألا يزال نهر النيل قائما، والمصريون في بلادهم، والتاريخ الطويل من ورائهم، والتقاليد قائمة كالرواسي الرواسخ تضحك على مقام التغيير ولحظة الثورة؟ فكم من هؤلاء جاء وراح؟