احذروا مهنية بشار

TT

خلال الأشهر الخمسة الماضية، حاول نظام البعث في سوريا إخماد حالة العصيان المدني التي اجتاحت المدن والقرى السورية، وفي كل مرة خرج فيها المتظاهرون عقب صلاة الجمعة واجههم النظام بالأسلحة إلى الحد الذي باتت معه الحكومة - بأجهزتها الأمنية - خصما لأغلبية المواطنين بعد سقوط مئات القتلى، واعتقال الآلاف، ونزوح المواطنين المذعورين إلى دول الجوار. في الأسابيع الأولى كان الرئيس الأسد بين خيارين: التضحية بالنظام القديم واستبدال عهد إصلاحي – وتصالحي - جديد به، أو التمترس خلف سلاح الحزب والطائفة والقتال حتى النهاية. الأسد كان يدرك أن الدول الغربية والعربية كانت قلقة من احتمالات التغيير في سوريا، وأن مخاوف البديل الإسلامي المتطرف، أو وقوع سوريا في حالة الفوضى والحرب الأهلية نظرا لموقعها المهم على حدود الصراع مع إسرائيل كانت تزعج أكثر خصومه عداوة.

لأكثر من أربعة عقود كانت شرعية الحكم مزيجا من الشعارات القومية، وتقديم خدمات لوجيستية للمنظمات والجماعات المسلحة (المقاومة) ناجحة – نسبيا - ولكن ما فات على الأسد تقديره هو تغير الموقف الدولي والظروف الإقليمية مع بداية الانتفاضات الشعبية التي عمت المنطقة. إذا كانت الدول الغربية قد تنكرت لنظام مبارك في مصر على الرغم من الأهمية الاستراتيجية له كحليف إقليمي، فإن الدفاع عن نظام مستبد ومخرب كالذي مارسه الرئيس بشار منذ عام 2000 لم يكن ليحدث.

واقعيا، حظي بشار بفرص عديدة وتغاض دولي طوال الشهرين الأولين للمظاهرات لعله يصلح بعض الضرر الذي وقع، ولكن بات من الواضح أن النظام السوري بهيئته الحزبية والطائفية قد اختار الطريق الثاني: وهو القتال حتى آخر رجل، حتى ولو أدى ذلك لانهيار البلد ودخوله في حرب أهلية. الانتشار العسكري الذي قام به، والعمليات التي شنها على مدن سورية كبيرة لم تكن بقصد ردع حركة مسلحة كما يزعم النظام، بل لردع أي فرصة لقيام واحدة. المعالجة الأمنية القاسية كانت لأجل إخراج العصيان المدني من حالته السلمية إلى المواجهة العسكرية، ولكن فوجئ النظام بأن المظاهرات استمرت واتسعت يوما بعد يوم سلميا حتى أصبح بقاؤه معها مستحيلا.

خطاب الملك عبد الله بن عبد العزيز الأخير رفع عنه أي غطاء عربي أو إقليمي. كلمات العاهل السعودي عبرت عن موقف الكثيرين داخل العالم العربي وخارجه، فاستخدام السلاح لإسكات المواطنين المسالمين لم يعد مقبولا. يقول الملك عبد الله: «ما يحدث في سوريا لا تقبل به المملكة العربية السعودية، وإن الحدث أكبر من أن تبرره الأسباب»، ويمضي ليطالب النظام السوري: «بإيقاف آلة القتل وإراقة الدماء، وتفعيل إصلاحات شاملة».

في الحقيقة، الموقف السعودي يعد استثنائيا، فالسعودية معتادة على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين، ولكن الحدث أكبر من أن يتم السكوت عنه لأن هناك مسؤولية أخلاقية وتاريخية أمام ما يحدث. لا شك أن الموقف السعودي قد يشجع الكثيرين على اتخاذ مواقف مشابهة نحو الوقوف بشدة تجاه الضغط على النظام السوري لوقف آلة القتل، ولكن أهم من ذلك كله هو الرمزية السياسية التي تشير إلى أن دولة بحجم السعودية لم تعد ترى في بقاء نظام الأسد الحزبي والطائفي بعد اليوم ضرورة، وهو بالذات خسارة معنوية لا تعوض للنظام وفرص بقائه.

ولعل السؤال المهم اليوم: ما الذي سوف يحدث بعد أن وصل النظام السوري إلى طريق مسدود؟

لا أعتقد أن الرئيس الأسد، وبعد إراقة كل تلك الدماء سيكون قادرا على تغيير المسار الذي سلكه، فهو قد أصبح رهينة لصقور الحزب والطائفة، والذين لن يتوانوا عن التخلص منه إذا ما فكر بالتضحية بهم. هي لا شك، معضلة لن يستطيع الخروج منها إلا بتضحيات كبيرة قد تطال أقرب الناس إليه. لقد قام والده بنفي أخيه، والانقلاب على أركان النظام في 1984، ولكن فرصة الأسد الابن في نفي أخيه ماهر - كما تمنى البعض - لم تحدث، ولا يتصور أن يلجأ إلى ذلك بعد أن أصبح حكم الطائفة والحزب مهددا، ومحاصرا من الخارج. أغلب الظن أن النظام سيستمر بالدفع تجاه التسوية العسكرية حتى وإن اضطر إلى تهجير مئات الآلاف من المواطنين المعارضين لحكمه، أي أننا بإزاء نظام يعتقد بأن المخرج النهائي له لن يكون إلا عبر الحل العسكري مهما بدا ذلك للآخرين عملا همجيا. الأمر الآخر، هو أن النظام يدرك بأن الحزب والطائفة سيستمران في المواجهة حتى ولو سقطت العاصمة أو انحسرت سلطة الدولة عن مناطق الانتفاضة. في الوقت الحالي، يراهن النظام بأن الضغوط الدولية والعربية لن تصل إلى مرحلة التدخل العسكري لانشغال المجتمع الدولي بحرب ليبيا التي لم تحسم بعد، ولهذا فإن خطر الإسقاط من الخارج لا يزال مستبعدا إلا إذا قررت بعض الدول الإقليمية - لا سيما تركيا - المغامرة في ذلك.

الرئيس بشار ونظامه ليسا بوارد الاستسلام، والجيش السوري الذي هو مؤسسة حزبية - وطائفية بامتياز - لم يعد قادرا على الاستمرار إلا بانقسام محتمل، وإلا فإن مصيره بعد سقوط النظام سيكون الانحلال. بيد أن النظام يراهن على صعوبة قيام بديل سياسي (تعددي) قادر على لعب الدور الانتقالي الضروري. المعارضة لا تزال ضعيفة كمؤسسة جامعة، ولا يبدو أن هناك قدرة على لم شعث الشقاقات الداخلية بين طوائف وجماعات وعشائر المعارضة إلا بتدخل إقليمي قوي.

لقد برهنت السعودية على أهميتها ودورها بالتدخل أخيرا في الملف السوري، وقد يساهم التعاون الإقليمي والدولي في حصار النظام السوري وبالتالي إضعافه، ولكن لا بد من اتخاذ خطوات عملية لمساعدة السوريين - وبالذات المعارضة - على توحيد صفهم وبلورة مشروع سياسي بديل للنظام القائم. إذا كان نظام بشار الأسد خطرا على السوريين ومصدرا رئيسيا لزعزعة الاستقرار في المنطقة، فلا سبيل إلا بالعمل الجاد نحو إجباره على تغيير سياساته السيئة، أو مساعدة السوريين على تقرير مصيرهم.

إذا كان المجتمع الدولي قلقا من تحول سوريا نحو حرب أهلية (طائفية)، فإن المسؤولية تقتضي مساعدة السوريين على تشكيل بديل سياسي (تعددي)، والخروج بميثاق تعايش وطني يطمئن الأقليات، ويحفظ حقوقهم ودورهم في سوريا ما بعد الأسد. من شأن خطوات كهذه أن تضعف موقف النظام الذي يخوف طائفته - وبقية الأقليات - من عواقب سقوطه. إذا تأكد السوريون أن هناك ضمانات دولية وعربية لحفظ حقوقهم السياسية المشروعة دون تحول البلد إلى حكم طائفي جديد، أو ملاحقة (اجتثاث) أعضاء حزب البعث الذين يخافون الانشقاق على النظام، فإن ذلك سيشكل نهاية مشروعية النظام السوري في نظر الطائفة والحزب.

في كتابه «صدمة وصمود» (2009)، يروي كريم بقرادوني حكاية لقائه الأول ببشار الأسد في منتصف التسعينات، وكيف أن الشاب الذي لم يكن مرشحا للخلافة بعد أبيه، أصبح فجأة وريث كرسي الرئاسة بعد وفاة أخيه باسل. يقول بقرادوني إن الكثيرين لم يكونوا مقتنعين بقدرة - أو مؤهلات - بشار على ملء الفراغ السياسي بعد رحيل الأب، وكانوا إلى وقت قريب (لا) يشكون في كونه حاكما صوريا يختفي وراءه عدد من النافذين في العائلة والحزب الذين يديرون سوريا فعليا، ولكن الأحداث منذ 2005 - كما يجادل بقرادوني - قد أثبتت بأن بشار الأسد وحده من يملك زمام الرئاسة والمسؤولية في سوريا. يعزو بقرادوني ذلك إلى ذكاء ونبوغ الأسد، ومهارته في الحكم، ويروي أن الأسد لخص له فلسفته في الحياة قائلا: «أنا بطبعي مهني، إن أقدمت على شيء فيجب أن أنجح فيه».

لقد أثبت الأسد بأن مهنية الاستبداد والاغتيالات لا تعرف الفشل، ولهذا فإن الدول التي تنتظر أن يقوم بالإصلاح لوحده لا تعرفه جيدا. لهذا، احذروا مهنية بشار لأنه لن يسعى إلا إلى النجاح في ردع انتفاضة مواطنيه.