فياض يسكن مجمع الأزمات

TT

يواجه الفلسطينيون حاليا مجموعة من الأزمات، بعضها يتم الاعتراف به مثل الأزمة المالية، وبعض آخر يتم الهروب منه مثل الأزمة السياسية، وما تبقى يتم التغاضي عنه وتركه للزمن.

هنالك قول يرقى إلى مستوى البديهيات الثابتة، هو أن جذر الأزمات الفلسطينية جميعا هو الاحتلال، غير أن الأزمات المنبثقة عنه، أو المتأثرة به، تقض مضاجع الفلسطينيين وتضعهم على نحو جماعي في حالة قلق من حاضرهم، وأمام غموض يلف غدهم، وحيرة في أمر أي المخارج يختارونها للتخفيف من أذى الأزمات دون أن نجرؤ على القول: الخروج منها.

أدرت حوارا تفصيليا مع الدكتور سلام فياض، الذي يحمله البعض المسؤولية عن هذه الأزمة المالية، ويحمله الجميع مسؤولية الخروج منها، كان تحليله باختصار ما يلي:

تقوم السلطة الفلسطينية، وتحديدا الحكومة، بعملية انتقال صعب من واقع الاعتماد الرئيسي على التمويل الخارجي إلى واقع آخر، يقل فيه هذا الاعتماد تدريجيا، حتى يبلغ مستوى تكون فيه السلطة قادرة، بإمكاناتها المالية، على مواصلة الحياة والابتعاد عن دائرة الارتهان المطلق للتمويل الخارجي.

وهذه المرحلة التي يشبهها بالمخاض، لها تحدياتها وآلامها وحتى أثمانها الباهظة.. وإننا - والقول لفياض - من خلال مضينا في إقامة وتطوير البنية التحتية للدولة العتيدة، نواجه تحديا مضاعفا هو، إلى جانب تأمين الاحتياجات العاجلة كالرواتب والنفقات الجارية، هنالك ما ينفق على عملية التنمية المستدامة؛ إذ نجد أنفسنا مضطرين لملء فراغات الدعم الخارجي المقبل لنا على هيئة مشاريع فندفع جزءا مهما من مداخيلنا في هذا الاتجاه.. وبالتالي لا مناص هنا من مواجهة أزمات.. ولا مناص من بذل جهود مضاعفة لعبورها ووضع حلول لها.

تدخلت: بالاقتراض مثلا؟ فأنت متهم بزيادة منسوب الدين على السلطة وأن كل ما تفعله يستند إلى المغالاة في الاعتماد على الديون.

إننا نقترض، ولا مجال للبقاء على قيد الحياة دون اللجوء إلى هذه الوسيلة المعتمدة في جميع كيانات ودول العالم، لمعالجة أوضاعها الاقتصادية، إلا أنني أستطيع القول إننا خفضنا الديون بمقدار يزيد قليلا على مليار ونصف المليار دولار، ونحن ماضون في ذلك، وعند الحديث عن الأزمة المالية، لا نستطيع عزلها عن الأزمة السياسية. ولقد اتفقت مع الدكتور فياض على أن هنالك ارتباطا جدليا بين السياسة والاقتصاد، إلا أن هذا الارتباط في الحالة الفلسطينية ليس كما يصور بسطحية أقرب إلى السذاجة. أي أنه كلما اتخذنا موقفا ينبع من المصلحة الوطنية كما يقدرها صانع القرار السياسي نواجه أزمة مالية، ونصور الأمر للجمهور كما لو أن أزماتنا المالية مرتبطة كلها بمواقفنا السياسية. إن هذا التعميم ليس دقيقا تماما.. وإن الكثير من الدول تنصحنا وتقترح علينا خطوات سياسية معينة، إلا أن سلوك هذه الدول معنا، سواء بالضغط أو التلويح به أو حتى ممارسته، لا يلغي المعضلة الأساسية للاقتصاد الفلسطيني وجذرها الاحتلال، وبعض مسبباتها كذلك تأثرنا المباشر بالأزمات الاقتصادية العالمية وتعثر مشاريع التنمية وصعوبة الانتقال إلى حالة من الاستقرار تهيئ المناخ الأمثل لتطوير الاقتصاد وترسيخ دعائمه.

إن فكرة الدكتور سلام فياض وخطته وإن كانت مدعومة من غالبية الفلسطينيين، كما تشير استطلاعات الرأي، ومرحبا بها من قبل دول العالم، خاصة الدول المانحة، إلا أنها تظل رهينة معادلة ومؤثرات متحركة وخطرة، مؤثرات جذرها الاحتلال، أي السياسات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني وانعكاساتها الدولية.

إن التجربة الفلسطينية في بناء الدولة على الأرض والسعي للحصول على شرعية قانونية وسياسية لا يمكن أن تكتمل أو تتحقق إلا بموافقة إسرائيلية وتسهيلات أساسية من جانبها.. إن هذه التجربة لا تزال محمية بمعادلة قوامها الاعتبارات الدولية، ومدى استعداد العالم، وفي مقدمته الولايات المتحدة وأوروبا، لحماية هذه التجربة، وإقامة جدار يفصل، ولو نسبيا، بينها وبين التحفز الإسرائيلي للانقضاض عليها وإعادتها إلى الصفر. وحماية من هذا النوع تظل محفوفة بالخطر، وعرضة للتلاشي، إذا ارتكبت أخطاء سياسية. أو تغيرت قواعد اللعبة ووجدت إسرائيل نفسها في وضع يحتم عليها المجازفة بهدم الجدار الدولي الحامي واستباحة التجربة «الطرية» التي لا تزال على الرغم من الخطوات المهمة التي قطعتها قابلة للعطب وحتى العودة إلى الصفر.

من هنا تتضح أهمية الحسابات المتأنية والمدروسة بعناية قبل الإقدام على أي خطوات سياسية من أي نوع. قد يكون مهما التفسير الإيجابي لكل خطوة يخطوها الفلسطينيون من زاوية الدوافع والخيارات المتاحة، لكن الأهم أن نضع في الاعتبار كيف يفهم العالم هذه الخطوات وكيف سيتصرف حيالها، وكيف ستستغل إسرائيل ما يجري، وكيف تتعامل معه.

وهنا يظهر ما يسمى استحقاق سبتمبر (أيلول) في الصورة، كعامل مفصلي في التأثير على الأزمات الفلسطينية سلبا أو إيجابا؛ ذلك أن ذروة المشهد سترى خلال هذا الشهر، إلا أن ما يليه هو الأهم، وبصرف النظر عما سيتحقق في سبتمبر وما لا يتحقق، ستظل الساحة الفلسطينية مجمع أزمات متداخلة وسيظل الفلسطيني ينتقل بينها ويدفع ثمنها إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.