موقفان من العالم: عربي وإسرائيلي!

TT

يتبلور في هذه الأيام موقفان من العالم: واحد عربي، وآخر إسرائيلي. وفي حين يمثل الأول موقف الشعب على درجة تكاد تكون حصرية، يعبر الثاني عن موقف معظم رسميي ومواطني الكيان الصهيوني.

يكتسب الموقف الأول أهمية خاصة لسببين:

أولا: إنه نقيض المواقف الرسمية العربية، التي سهلت تعاطف العالم مع إسرائيل، وجعلته يصدق أطروحة تزعم أن العرب سيرتكبون عمليات إبادة ضدها، في حال سمح لهم بالانتصار عليها. والدليل، ما ترتكبه بعض حكوماتهم من عمليات تشبه الإبادة ضد شعوبها، بمجرد أن ترفض الانصياع الذليل لها. لا ننسى أن الحكومات العربية أدارت بالفعل أسطوانة العنتريات الفارغة ضد العدو، ليس لأنها قادرة على منازلته وهزيمته، وإنما من أجل إبقاء شعوبها أسيرة معركة وهمية سموها معركة تحرير فلسطين، مع أنه تبين عجزهم خلال حرب يونيو (حزيران) عام 1967 عن حماية حدودهم وعواصمهم. هذه العنتريات كانت لها وظيفتان: داخلية وعربية، ولم تكن موجهة إلى العدو إلا على طريقة المثل الشهير: «الكلام إلك يا جارة اسمعي يا كنه». والعاجز يتوهم أنه يستطيع تخطي عجزه بالجعجعة المبالغ فيها.

ثانيا: إنه كلام المجتمعات العربية وليس كلام هذا أو ذاك من القادة. والمجتمعات العربية المتمردة ليست بحاجة إلى جعجعة بلا طحن، أو إلى المناورة بالورقة الإسرائيلية، لأنها لن تناور عندئذ إلا على نفسها. إنها ترفض أن تتحدث لغة مبالغات قومجية مشحونة بالتوتر والتعصب وضيق الأفق، وتتحدث لغة العصر التي صنعت العالم الحديث، بعد أن فهمت أن أية لغة أخرى لن توصلها إلا إلى الهزيمة تلو الأخرى والفشل بعد الفشل، وأن خروجها من بؤسها لا يكون إلا بإعادة قراءة واقعها في ضوء اللغة التي صنعت العالم الحديث، ويمكن بمعونتها الخروج من معضلات مزمنة حشرتها فيها لغة النظم وممارساتها، التي لا تمت بصلة إلى واقع وحاجات البشر، وطموحاتهم وإلى زمن يكون لهم - هو في رأيهم - زمن حرية وحقوق إنسان وكرامة بشرية ومواطنة ودولة تعبر سياسيا عن مجتمعها بجميع مكوناته، تكون مدنية، ودولة حرية وعمل منتج ومبدع.

بهذه اللغة، التي توجد علامات متزايدة على أنها بدأت تقلق إسرائيل، بعد أن كانت سعيدة بلغتين واجهتهما: واحدة قومجية توعدت برميها في البحر، والثانية إسلامجية هددتها بالذبح، جعلتا من السهل بالنسبة إليها تشويه الحقيقة، وإيهام العالم أن المتخلفين العروبيين والإسلاميين يريدون القضاء عليها لأنها متقدمة وواحة وحيدة للديمقراطية في منطقتهم، التي لطالما ناوأت الغرب أيضا بدوافع أملاها الحسد، وها هي تواصل اليوم نهجها التاريخي للسبب عينه، فلا بد أن يسارع المتقدمون إلى حمايتها من البرابرة الذين يتحينون فرص الانقضاض عليها.

غيرت إسرائيل لهجتها في الآونة الأخيرة، وبدأت تعلن أن الديمقراطية في ديار العرب ستكون أعظم خطر وجودي يواجهها، بينما كانت تحذر الغرب منها، وتلفت نظره بشدة إلى أنها ستعيد إنتاج نهضة جديدة ستكور العرب على أنفسهم، وستحدث كياناتهم وتتكفل بتقدمهم على دروب مفتوحة إلى ما يريدون، وسترد إليهم ما تاقوا طويلا إليه من مكانة في عالم سلبهم لفترة غير قصيرة القدرة على بلوغها، وعلى لعب دور يبدو أن المجتمعات العربية وليس هذه النخبة أو تلك من نخبها، هي التي ستمارسه، بينما هي تعلن غايته بصوت لا لبس فيه: اللحاق بالعصر الحديث من بوابته الحقيقية: المدنية والمواطنة والحرية، فضلا عن العدالة والمساواة، واستنكافها عن خوض أية معركة ضد أية جهة كانت قبل إنجاز البناء الذي سيقوم عليها، لأنها لن تكون عندئذ، في أغلب الظن، بحاجة إلى خوض أية معركة، خاصة منها العسكرية، كي تكسب صراعاتها، بحكم هوة والقوة والقدرة التي ستفصلها عنه، خاصة إن كان طرفا قليل الموارد والسكان، ضيق المساحة وفقير الإمكانات كإسرائيل، التي لم تتعملق بفضل قدراتها الذاتية؛ بل نتيجة لضعف العرب، فلا بد أن تغير عودتهم إلى الحياة وقوتهم طبيعة أهدافها وسياساتها، وتجبرها إما على الاندماج في المنطقة العربية لتكون حيا يهوديا على ضفة المتوسط الشرقية، كما قال رئيس وزرائها الحالي نتنياهو ذات يوم بخوف، أو على مغادرتها في زمن غير بعيد.

تدرك إسرائيل أن زمن الإفادة من حماقات العرب الرسمية يوشك أن ينتهي، وأنها ستواجه زمنا عربيا جديدا أعظم سماته أنه يتحدث للعصر بلغته، ويرى الأمور بتسامح وبعد نظر ونزعة إنسانية، في حين تتحدث هي لغة تحريض عنصري مليئة بالأحكام المسبقة والتبجح التمييزي، وتعد بالإمعان في ممارسات تهدد السلام في طول المنطقة وعرضها، وبالعمل لإحباط أي مسعى عربي إلى الحرية والعدالة، وتفضح نفسها لأول مرة باعتبارها ليست واحة ديمقراطية بل حصن عنصرية يفرض بقوة السلاح التأخر ويحمي الاستبداد في جواره، لأنه يرى فيهما أمله ويعلق عليهما رهاناته.

تفضح إسرائيل نفسها، وتفضحها يقظة العرب الحالية وقيمها التي ستضعهم في قلب العالم وستخرجها إلى أطرافه، وستربطها بأسوأ ما فيه من تكوينات وقوى وآيديولوجيات. أليس هذا أول خطوة على درب احتواء مشروع عمل طيلة قرن ونيف كي يفرض علينا أنماطا من التأخر قام عندنا من زينها لنا باعتبارها التعبير الصحيح عن هويتنا وتاريخنا، وجزءا تكوينيا منهما؟

أخيرا، أليست حرية العرب مستحيلة دون حرية فلسطين، وحرية فلسطين مستحيلة بدورها دون حرية العرب؛ في كل زنقة ودار وشارع وقرية ينهمر اليوم عليها نور مستقبل ينبثق من دماء من يضحون بحياتهم في سبيل الحرية؟

* كاتب سوري معارض