هل تذهب سوريا للمجهول؟

TT

لم يكن بدعة أن تلجأ الأنظمة العربية للعنف.. لديها تاريخ طويل من العسف والتنكيل في التعامل مع شعوبها، ولقد رأينا مؤخرا نماذج منه في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين، وكلها تصب في خانة التأديب وكسر الإرادة والإخضاع والامتثال.

إزاء هذه المشاهد المكلفة والباهظة الثمن والتي نجحت في إسقاط رأسي النظام في تونس ومصر، كان الأمل أن النظام في سوريا سيجترح مثالا فريدا في التحول الديمقراطي، يمهد له بإصلاحات جذرية وشاملة، طالما وعد بها، وحان أوان الوفاء بها أكثر من مرة، ويقدم للعالم أنموذجا سوريا في التعددية وسيادة القانون. للأسف، وجد النظام أكثر من مبرر لاستثناء الشعب السوري من التظاهر والاحتجاج والمطالبة بحقوقه، فسوريا، حسب السلطات الحاكمة، غير مهيأة للحرية ولا للديمقراطية.

اليوم تكاد الاحتجاجات الشعبية في سوريا تختتم شهرها الخامس وتدخل شهرها السادس، سقط خلالها ما يزيد على ألفي قتيل من الرجال والنساء والشباب والأطفال، ومنهم جنود وضباط ورجال أمن؛ حسم النظام أمره منذ بداياتها على إنهائها بحزم، واجتاحت أجهزة الأمن وعصابات الشبيحة الشوارع والقرى والمدن، وتهتكت خلال الأيام الأولى الثقة الهشة بين النظام والمتظاهرين، وباتت معدومة. القمع العشوائي ورصاص القنص لم يستثن أحدا. أما وعود الإصلاحات التي جاءت متأخرة، فتآكلت بمجرد الإعلان عنها، بعدما أعطيت الحرية كاملة لآلات القتل العمياء، وكأنه لا بديل عنها، لكن الموت أسقط الخوف، وانفتح زمن الاستعصاء والتساؤلات، وبات على السلطة أن تعيد حساباتها في هذا الوقت الذي يضيق، لكن ما زال يتسع للحل الأمني لا السياسي.

اختار النظام عدم الإصغاء للاحتجاجات السلمية، والتصدي لها بالرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع والدبابات، وورط الجيش في اقتحام المدن والأرياف، وورط الإعلام بتزييف الحقائق، وورط البلاد في التقاتل. كان المطلوب فرز الأوراق، وليس خلطها بقمع المظاهرات المحقة على أنها عصابات مسلحة وجماعات أصولية متطرفة، حتى بات من المألوف أن نسمع معلقين سياسيين، سواء عن ذكاء أو جهل، يدعون إلى القتل وبشكل سافر، ويفتون بتحليل سحق المتظاهرين، بينما تعهد شبيحة الإعلام بتلفيق المؤامرات وتبرير المضي في العنف والسخرية من الشهداء. إن منظر رجال وشبان وأطفال يهانون ويضربون بكل ضراوة، لهو إهانة لسوريا، وهؤلاء الذين ينكلون بهم مجرمون يتباهون بفجورهم، أما من يحاول التبرير، فهو الأكثر انحطاطا. إن التضليل الإعلامي عمل إجرامي يمنح الشرعية للاعتداءات الغاشمة على أناس عزل يطالبون بالحرية.

هذا الحل إذا كان يسير بالبلاد نحو الاستقرار والوئام، فهو استقرار موقوت، ووئام مبطن بشرخ عميق. وإذا كان هناك من يروج لهما، فالأكاذيب وحدها تدعم هذا الرأي. إن القمع بالرصاص والدبابات والاعتقالات والتعذيب وانتزاع الاعترافات بالقوة وتلفيق الاتهامات والتخوين، تؤدي إلى قتل الحريات والناس معا، كما تستدعي عنفا بالمقابل، لا يمكن ضبطه، يجر أسوأ تفجير للاحتقانات غير المحسوبة في بلد كان مغلقا طوال عقود، أقلها الحقد والكراهية والانتقام والثأر.

إن استعداء الطوائف بعضها على بعض والشحن الطائفي عمل في منتهى الغباء وقصر النظر والإجرام، يقود سوريا نحو التقسيم. ما فشل فيه الاستعمار، قد تنجح فيه العقلية الأمنية. إن ما يرتكب خيانة للحلم السوري الجامع والعابر للطوائف والمذاهب والأديان، وما يجري يجلل السلطة بالخزي والعار؛ الأرض التي كانت ملجأ لطالبي الأمان والمضطهدين والملاحقين العرب من أنظمة بلدانهم الديكتاتورية، أصبح أصحابها لاجئين لدى بلدان الجوار، وجيش الشعب سلط فوهات بنادقه ومدافعه على صدور المتظاهرين، لا نحو العدو الخارجي. والجيش نفسه مهدد بالانشقاق والتشرذم مع انسداد الآفاق، وانفتاح البلد على المجهول الأسود، والمستقبل مهدد بالضغائن والثارات.

إن التستر وراء هيبة النظام، يحيلنا أيضا إلى إرادة الشعب.. إرادته هي الأعلى، ولها الأسبقية، والحق بالاحترام، وأن الشعب هو الأولى بالسيادة، والجدير بالكرامة والحرية.

حركة التاريخ اليوم إلى جانب البشر في تطلعهم نحو الحرية، وإذا أدركنا أن الله لم يميز بينهم.. منحهم الحرية مع الحياة، فلا يحق لسلطة؛ سواء كانت دينية أم زمنية، حرمانهم منهما. إن أفضل ما يفعله أي نظام هو الاستجابة لشعبه والوقوف إلى جانبه، لا يحرمه من الحياة، ويحمي حرياته. وإذا كان على الدولة القيام بإجراءات إنقاذية إسعافية وعاجلة، فإن الواجب عليها أن تكفل حياة المحتجين وكرامتهم، وتلبية مطالبهم العادلة، وطمأنتهم إلى أن الوطن الذي هبوا من أجله، لن يذبحهم النظام تحت سقفه.

* كاتب روائي سوري