آليات الملاحقة القانونية للجرائم المرتكبة في سوريا

TT

مع ازدياد عدد الضحايا المدنيين الذين سقطوا منذ بدء الاحتجاجات في سوريا في 15 مارس (آذار) الماضي بدأ حجم الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان يتكشف مع مرور الأيام.

لقد قامت الكثير من المؤسسات الدولية العاملة في مجال حقوق الإنسان بتوثيق هذه الانتهاكات، واعتبرت في الكثير من تقاريرها أن ما جرى في سوريا يرقى لاعتباره جرائم ضد الإنسانية لسببين رئيسيين:

الأول: إطلاق الرصاص الحي والمباشر على المدنيين العزل مما أدى لارتفاع عدد القتلى بشكل كبير ليفوق بكل تأكيد 1500 شخص منذ بدء الاحتجاجات، منهم 83 طفلا تحت سن الثامنة عشرة، وإن كنت أعتقد أن الرقم أكبر من ذلك بكثير، فعلى سبيل المثال تحدثت المنظمات الحقوقية العاملة في مصر عن سقوط ما بين 230 و250 قتيلا أثناء ثورة مصر التي دامت 17 يوما، أدت بعدها إلى إسقاط النظام، لكن فيما بعد أكد المجلس العسكري المصري أن أعداد القتلى أكثر من 822 قتيلا، أي وجود فرق واضح بعدد الضحايا، رغم أن مصر كانت نموذجية من حيث الوجود الفاعل للمنظمات الحقوقية المحلية والدولية ولوسائل الإعلام العربية والأجنبية، ولا يمكن مقارنتها مطلقا بالحالة في سوريا، حيث لا وجود لمنظمات حقوقية مرخصة فعليا وفاعلة على الأرض، بالإضافة إلى حالة التعتيم الإعلامي التي فرضها النظام من خلال منع أي مراسل أو صحافي من الدخول أو تغطية الأحداث، بالإضافة لطرد كل المراسلين الموجودين مسبقا، مما جعلنا نعتمد في التوثيق على شجاعة ناشطين حقوقيين على الأرض، بالإضافة إلى التعاون المحدود من الأهالي، وهو ما يجعلنا نثق أن الرقم حقيقة أكبر بكثير من الأرقام المتداولة، خاصة مع ما بدأ في الظهور مع العملية العسكرية الواسعة في درعا، والتي بدأت مع نهاية شهر أبريل (نيسان) وما نجم عنها مما يسمى (جثث مجهولة الهوية) وتصاعد عدد المقابر الجماعية التي ظهرت بداية في درعا قبل أن يمتد الحديث عنها ليطال أكثر من مدينة سورية، خاصة ما خضع منها لأشكال من العقوبات الجماعية من حصار وقطع للاتصال والماء والكهرباء وقتل عشوائي باستخدام المدفعية والرشاشات الثقيلة والطائرات العسكرية في جسر الشغور ومعرة النعمان، مما يرفع عدد القتلى بشكل كبير.

إذن وبعد كل هذه الجرائم ضد الإنسانية كان هناك تحركات قانونية لمحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم، وهي على ثلاثة مستويات:

1) مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، حيث عقد في 29 أبريل بناء على طلب 16 دولة أعضاء بالمجلس، وكانت جلسة خاصة لبحث حالة حقوق الإنسان في سوريا، وخرجت الجلسة بتصويت أكثرية 27 دولة لصالح القرار وامتناع سبع دول وتصويت 9 دول ضد القرار، ينص القرار على إدانة استخدام العنف المميت ضد المتظاهرين المسالمين على أيدي السلطات السورية وإعاقة حصولهم على العلاج الطبي، وحث الحكومة السورية على وضع حد فوري لجميع انتهاكات حقوق الإنسان، وحماية سكانها، والاحترام التام لجميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية، بما في ذلك حرية التعبير وحرية التجمع للتظاهر، وكذلك حث السلطات على السماح بإيصال شبكات الإنترنت والاتصالات السلكية واللاسلكية ورفع الرقابة على التقارير، بما في ذلك السماح بتوفير الظروف المناسبة لاستيعاب الصحافيين الأجانب. ودعا المجلس الحكومة السورية إلى الإفراج فورا عن جميع سجناء الرأي والأشخاص المعتقلين تعسفا، بمن فيهم أولئك الذين اعتقلوا قبل الأحداث الأخيرة، فضلا عن أن تكف فورا عن أي من الترهيب والاضطهاد والاعتقالات التعسفية للأفراد، بمن فيهم المحامون والمدافعون عن حقوق الإنسان والصحافيين. وحث القرار السلطات السورية على الامتناع عن أي أعمال انتقامية ضد الناس الذين شاركوا في المظاهرات السلمية والسماح لتوفير المساعدات العاجلة للمحتاجين، بما في ذلك ضمان وصول حقوق الإنسان المناسبة والمنظمات الإنسانية. وشدد على ضرورة قيام السلطات السورية بإطلاق تحقيق نزيه يتمتع بالمصداقية وفقا للمعايير الدولية ومحاكمة المسؤولين عن الاعتداءات على المتظاهرين المسالمين، بما في ذلك القوات الخاضعة لسيطرة الحكومة.

وفي النهاية طلب من مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان بسرعة إرسال بعثة إلى سوريا للتحقيق في جميع الانتهاكات المزعومة للقانون الدولي لحقوق الإنسان، وإثبات الوقائع والظروف لهذه الانتهاكات والجرائم التي ارتكبت، بغية تجنب الإفلات من العقاب وضمان المساءلة الكاملة، وتقديم تقرير أولي عن حالة حقوق الإنسان في الجمهورية العربية السورية إلى المجلس في دورته السابعة عشرة، وتقديم تقرير متابعة إلى المجلس في دورته الثامنة عشرة، ويطلب كذلك إلى المفوض السامي لتنظيم حوار تفاعلي بشأن حالة حقوق الإنسان في الجمهورية العربية السورية خلال الدورة الثامنة عشرة للمجلس.

وبالتالي تشكلت لجنة تحقيق دولية مؤلفة من المفوضية السامية لحقوق الإنسان التي تقدمت أكثر من مرة بطلب لزيارة سوريا كما نص القرار، لكن لم يأت رد من الحكومة السورية، وحتى لو أتى رد الحكومة بالرفض فإن اللجنة ستقوم بزيارة الدول المجاورة وستعتمد في تقريرها على الشهادات والوثائق المتوفرة لدى المنظمات الحقوقية المحلية والدولية الموجودة هناك، بالإضافة إلى لقاء شهود العيان ممن هربوا إلى الدول المجاورة، ويفترض أن ترفع تقريرها هذا إلى المجلس في دورتيه الثامنة عشرة والتاسعة عشرة، فإذا خلص التقرير إلى أن ما جرى في سوريا يرقى إلى جرائم ضد الإنسانية فإنه سيوصي بتحويل الملف إلى مجلس الأمن ومنه إلى محكمة الجنايات الدولية، لا سيما مع فشل الحكومة السورية في فتح التحقيق الشفاف والضروري بعمليات القتل التي جرت، والتي صنفتها المنظمات الحقوقية على أنها (systematic)، أي منهجية وأيضا وصفتها بأنها (Wide spread)، أي واسعة النطاق، وهو ما يعني باللغة القانونية أنها جرائم ضد الإنسانية، لأنه على سبيل المثال وثقت منظمة هيومان رايتس ووتش في 22 أبريل أن عمليات القتل المباشر مورست في 16 مدينة مختلفة يوم الجمعة العظيم، مما خلف سقوط 112 شهيدا في يوم واحد، مما يدل على النية المبيتة لدى الأجهزة الأمنية لعمليات القتل، وهو ما أطلقت عليه منظمة العفو الدولية مصطلح Shoot to kill policy، أي سياسة الضرب بغرض القتل وليس تفريق المظاهرات ولا حتى تخويف المتظاهرين أو المواطنين العزل لمنعهم من المشاركة، بل الهدف هو القتل المباشر.

2) المسار الثاني هو المحاكم ذات الاختصاص الدولي، ففي عدد من الدول الأوروبية، لا سيما فرنسا وبلجيكا وبريطانيا وإسبانيا، إذا كان أحد الضحايا الذين سقطوا في الاحتجاجات يمت بصلة قرابة مباشرة إلى أحد المواطنين السوريين ممن يحمل جنسية إحدى تلك الدول، فإن النظام القضائي يخوله رفع دعوى على النظام السوري بتهم تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان، وقد تمكنت منظمات حقوقية من رفع دعاوى على السفير السوري في واشنطن، لا سيما أن ابنة أحد الضحايا الذين سقطوا باحتجاجات درعا تحمل الجنسية الأميركية، بالإضافة إلى السورية، وهي مقيمة في واشنطن، حيث رفعت دعوى مطالبة لتعويض من الحكومة السورية التي جمدت واشنطن أرصدة الكثير من المسؤولين بمن فيهم الرئيس قدرها 4 ملايين دولار أميركي.

3) المسار الثالث هو محكمة الجنايات الدولية، ولكن وبما أن سوريا ليست موقعة على اتفاق روما الأساسي، فإن المدعي العام للمحكمة (أوكامبو) لا يستطيع فتح تحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان التي جرت، وإنما يحتاج إلى قرار من مجلس الأمن الدولي يخوله فتح هذا التحقيق تماما، كما حصل في حالة الرئيس السوداني البشير والزعيم الليبي معمر القذافي، ولذلك فإن ضغوط المنظمات الحقوقية الدولية تتركز الآن على مجلس الأمن لاستصدار قرار مماثل منه يطالب محكمة الجنايات الدولية بفتح تحقيق في الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية في سوريا.

وقد قدمت عدد من المنظمات الحقوقية السورية، بما فيها مركز دمشق لدراسات حقوق الإنسان، ببلاغ إلى محكمة الجنايات الدولية وفقا للمادة 15 من قانون روما الأساسي المنشئ لمحكمة الجنايات الدولية يخطر المدعي العام بالجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في سوريا، ويطالبه بالمزيد من المراقبة والتحليل لما يجري في سوريا قبل فتح التحقيق الضروري الذي لن يفتح قبل صدور قرار الإحالة من مجلس الأمن.

* مدير مركز دمشق لدراسات حقوق الإنسان وباحث زائر في جامعة جورج واشنطن

في الولايات المتحدة