تجديد الفكر الديني

TT

غني عن البيان أن التجديد في الدين درجة عالية من درجات الاجتهاد، وبالتالي فليس يدركها كل أحد. نحن نعلم أن الاجتهاد معناه إعمال العقل الفقهي في ما لم يعرف من القضايا إجماع عليه، ولم يتقرر في السنّة قولا أو فعلا أو عرف عن النبي سكوت عنه، ولم يرد فيه نص قرآني صريح ولا ملمح يستوجب التأويل. وبالتالي فالاجتهاد يعني وجوب تقديم الجواب الشرعي الممكن في ما يستجد من أحداث، وللفقهاء في المستجدات نعت معلوم يصفها به: «النوازل». النوازل (المفرد نازلة) هي ما ينزل بعد أن كان غير موجود، والمفروض في الشرع أن يقدم عليه الجواب العملي، ما يلزم القيام به من جهة الشرع، حتى يكون المسلم في حال من التوافق مع مقتضيات الشرع. متى أدركنا هذا فنحن ندرك خطورة قضيتين تجابهان الناظر في الأحكام الشرعية الواجبة في الأحوال المستجدة (=النوازل). القضية الأولى هي مدى قدرة الدين على مواكبة الحياة في التغير والتبدل، وبالتالي صلاحية الدين اليوم كما صلح بالأمس وقدرته على الفعل في أزمنتنا المعاصرة. والقضية الثانية هي التي تمكن صياغتها على النحو التالي: من يملك اليوم شرعية الحديث عن التجديد الديني؟ ذلك أن هذه الشرعية ليس يملكها كل أحد.

شكلت القضية الأولى مدار البحث عند مفكري الإسلام في عصر النهضة، بل لعلها كانت مادة الخطاب الديني والعنصر الفاعل فيه في الفترة المشار إليها. وإذا لم نكن نرى فائدة من الخوض في السؤال الضمني أو الصريح الذي تطرحه (=قدرة الدين الإسلامي أو عجزه عن مواكبة قطار التطور)، فإننا نرى أن السؤال في القضية الثانية يستوجب وقفة تأمل وإبداء رأي.

نرى، تمهيدا للإجابة عن السؤال المتقدم، لزوم طرح جملة من الأسئلة. السؤال الأول: هل يملك المرء أن يتحدث عن تجديد الفكر الديني دون أن يكون هو ذاته، على نحو أو آخر، موجودا داخل دائرة الفكر الديني، وبالتالي يكون معنيا به من حيث إن ذلك التجديد يكون ملزما له في حياته العملية؟ السؤال الثاني: نعلم ما للدين من أثر فاعل، حاسم أحيانا كثيرة، في مجتمعاتنا الإسلامية بل وفي عالم اليوم إجمالا، فهل يملك عالِم الاجتماع في العالم الإسلامي، وكذا زملاؤه المؤرخون والفلاسفة وعلماء السياسة، هل يملكون جميعا أن ينصرفوا عن الشأن الديني في العالم الإسلامي؟ السؤال الثالث: هل يسع أحدا، من الذين ذكرنا، أن يكون من قضية التجديد الديني في موقف الحياد؟ قد يمكن أن نجمل الأسئلة السالفة في سؤال عام فنقول: هل في إمكان الخطاب الفلسفي في العالم الإسلامي، وكذا خطاب كل من علم الاجتماع، والسياسة، والتاريخ، أن يكتسب، في معرض الحديث عن التجديد الديني، سندا منطقيا ودعامة شرعية؟

كثيرا ما يلجأ البعض إلى القول المأثور يحتجون به لصحة كل ناظر، من أصناف العلوم المختلفة، في القول في الدين كما يحلو له: لا رهبانية في الإسلام. والقصد عندهم أنه لا وجود في الإسلام لنظام كهنوتي يمنع غير رجال الإكليروس من التطرق إلى القضايا الدينية. لا شك أن الحجة، متى حملت على ظاهرها، صحيحة، غير أن هذا البعض يغفل عن القاعدة الشرعية التي تقضي بأن الله لا يُعبد بجهل. والمعنى في القاعدة الشرعية المذكورة هو أن القول في الدين يستلزم التوافر على عدة معرفية لا تتوافر لعموم الناس وإنما هي مما يستوجب طلبا وتحصيلا.

الحق أننا لو تأملنا هذه القاعدة الشرعية لتبين لنا كيف أن مغزاها يفيد حفظ الدين من عبث العابثين وحفظ الخلق من فتنة الجاهل وخلف الفتنة تلك أغراض لا تخلو، في أحايين كثيرة، من خسة. عن القول في الدين ممن ليس أهلا لذلك تنتج أخطار جسيمة، فعنها يكون تفشي الخرافة وانتشار البدع وسيادة الشعوذة على العقول والنفوس، غير أن كلامنا هذا لا يعني البتة تضييق الدائرة، فهي تقصي خارجها كل من كان غير منتسب إلى التكوين الشرعي في معناه المهني الضيق. ربما استوجب قولنا هذا توضيحا، فنحن نقول: قضية التجديد في الدين تعني كل أحد من الصفوة من أهل الملة متى توافر شرطان اثنان لا سبيل إلى التفريط فيهما معا. الشرط الأول، الضروري، فهو إذن شرط صحة، أن يجاهر العالم المنتسب إلى العلوم غير الشرعية بانتمائه إلى الإسلام عقيدة وشريعة. ذلك أنه ليس يصح لمن كان خارج دائرة الإيمان الديني أن يقول في الدين برأي حتى وإن كان يمتلك العدة المعرفية لذلك. المسألة أخلاقية أولا وقبل كل شيء. في عبارة أخرى نقول: إسهام العالم المسلم المنتسب إلى علوم الاجتماع والنفس والتاريخ والاقتصاد، فضلا عن الفلاسفة، إسهام مطلوب ومفيد معا في ما يغني النظر الفقهي وينير له السبيل أحيانا كثيرة. وبالتالي فإن الجواب عن السؤال الأول الذي طرحناه، في بداية هذا الحديث، المتعلق بمعرفة من يمتلك شرعية القول في التجديد في الدين، يجد جوابه الواضح في الشرط الذي ذكرناه أعلاه.

الشرط الثاني أن يسلم العالم المسلم، خارجا عن دائرة الاختصاص الشرعي المتشبع بالمعرفة الكاملة، بأن التجديد في الدين عمل جبار، بل إنه طموح كبير، يستوجب تضافر الجهود الكثيرة، وهذا من جانب أول، ويستدعي التسليم بخطوط حمراء يكون الوقوف عندها حتى لا تنهار المنظومة الدينية كلية، وهذا من جهة ثانية. فأما الخطوط الحمراء فالشأن فيها، في نهاية الأمر، واضح متى أنصفنا: في كل دين قطعيات ومسلمات إيمانية، وما كان كذلك فهو لا يحتمل التأويل، والمرء مخير بين الأخذ بها أو الانصراف عن الدين كلية. أما تضافر الجهود فهو، وإن كان المعنى فيه واضح إلى حد كبير، فإنه يستدعي عندنا التنبيه إلى أمور ثلاثة: العقل، العلم، تكريم الإنسان. عند كل نقف وقفة قصيرة، فنحن نكتفي في كل وقفة بالإشارة والإيماء.

إذا كان الاجتهاد، وهو كما نعلم أدنى من التجديد درجة، يستوجب إعمال العقل (قد يجب التذكير بأن العقل أحد مسميات الاجتهاد) فما بالك بالتجديد في الدين؟ أود التذكير بالقاعدة الأولى التي يقررها علماء أصول الدين ويتفقون عليها مع اختلاف مذاهبهم الكلامية ومنطوقها: أول ما أوجبه الله على المكلف النظر المفضي إلى معرفته تعالى. العقل هو السبيل إلى معرفة الخالق عز وجل وكل المذاهب والآراء الفاسدة التي تدعو، بكيفيات مختلفة، إلى إفساد العقل أو إقصائه جانبا تسيء إلى الدين الإسلامي في جوهره. كل دعاة الإصلاح أدركوا هذا المعنى فجعلوا من الدفاع عن العقل قضية الإسلام ذاته.

العلم، وهو يتصل بالعقل بأسباب لا تخفى، من مستلزمات التجديد في الدين. لا تجديد في الدين ممكن في إنكار للعلم أو ابتعاد عن طريقه. تساءل أحد رموز الفكر الإصلاحي المعاصر، هو محمد بن الحسن الحجوي: لماذا كان التوقف عن الاجتهاد ولماذا غرقنا في وهدة الانحطاط والتقليد؟ فكان جوابه: توقفنا عن الاجتهاد في أمور الدين لأننا لم نعد نجتهد في أمور الدنيا.

أما تكريم الإنسان، من حيث هو كذلك، بصرف النظر عن انتمائه إلى الإسلام أو عدمه واعتبار التدبر في الدلالة الحق للتكريم، فهو يكون من التجديد في الدين بمثابة البوصلة التي توجهه والنور الذي ينير له الطريق.