صدفة خير من ألف ميعاد

TT

لم تعرف تل أبيب، منذ عام 1995، مظاهرات شعبية حاشدة بحجم المظاهرات التي تشهدها اليوم ساحتها الرئيسية.

عام 1995 تجمع مئات الآلاف من الإسرائيليين، فيما كان يعرف يومها بـ«ساحة ملوك إسرائيل»، للاستماع إلى كلمة يلقيها رئيس وزرائهم آنذاك، إسحاق رابين، في سياق حملة ترويج لتسوية سلمية للنزاع العربي - الإسرائيلي كانت تبدو واعدة على خلفية رابين العسكرية وثقة الشارع بحرصه على «أمن» إسرائيل.. ولكن رصاصات صهيوني حاقد أسكتته إلى الأبد وأعادت إسرائيل إلى كنف اليمين الصهيوني المتطرف.

اغتيال رابين شكل مفصلا سياسيا واضحا في تاريخ إسرائيل إن لم يكن رسالة مفتوحة لأي مسؤول إسرائيلي تسول له نفسه البحث عن حل سلمي لاحتلال الأراضي الفلسطينية والعربية.

وبالفعل، منذ عام 1995 وانتخابات إسرائيل تفرز حكومة يمينية متطرفة لتخلفها حكومة أكثر تطرفا حتى كاد اليسار (بمفهومه الإسرائيلي طبعا) أن يندثر سياسيا، وكادت الدعوة إلى تسوية سلمية للنزاع العربي – الإسرائيلي أن تصبح مرادفة لتهمة «الخيانة القومية».

من المبالغة تبني وصف مظاهرات تل أبيب بأنها امتداد «للربيع العربي» – رغم أثره النفسي الواضح على الشارع الإسرائيلي - أو أنها مؤشر ثابت لتبدل جذري في المناخ السياسي للشارع الإسرائيلي. ولكن ما لا يمكن تجاهله هو ما تمثله هذه الانتفاضة الشعبية من ظاهرة انفصام سياسي متنام بين الأحزاب اليمينية الحاكمة والشارع «الليبرالي» المحكوم، والتي تكاد تبلغ حد التمرد على القيادات السياسية التقليدية. قد يكون العنوان العريض لمظاهرات اليوم في تل أبيب اجتماعيا محضا: العدالة الاجتماعية وغلاء المعيشة والضائقة السكنية.. ولكن تلميح صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية إلى احتمال تحول الاحتجاجات الإسرائيلية إلى «ثورة»، ونزول رئيس الحكومة الليكودي، بنيامين نتنياهو، من برجه العاجي ليشكل لجنة للتحاور مع المحتجين، إضافة إلى تلميحه إلى احتمال إدخال «تغييرات جذرية» في تركيبة إسرائيل الاقتصادية.. مقدمات توحي بأن ما خسره اليسار الإسرائيلي، سياسيا، على مدى الخمس عشرة سنة المنصرمة قد يستعيده، اجتماعيا، في القريب العاجل.

هذا لا يعني أن مظاهرات اليوم بداية تحول إسرائيل إلى دولة شرق أوسطية أولا. ولكن الترافق التاريخي للمطلب الاجتماعي مع التوجه السياسي يفرض، بحد ذاته، عودة إسرائيل إلى سياسات أكثر واقعية حيال موضوع التسوية السلمية، خصوصا أن «الانتفاضة الاجتماعية» تتزامن مع حدثين عالميين مؤثرين على اقتصاد إسرائيل: خفض «ستاندرد أند بورز» التصنيف الاجتماعي لواشنطن، وتفاعلات الأزمة الاقتصادية لدول الاتحاد الأوروبي.

بين ضغوط الداخل الاجتماعية - المعيشية، وضغوط الخارج الاقتصادية - المالية، وكي لا تواجه إسرائيل مأزقا مشابها لمأزق اليونان وإسبانيا، سوف تكون مضطرة لاتخاذ تدابير تقشفية تجنبها تفاقم العجز المالي في موازنتها. وأقصر الطرق لتحقيق ذلك - دون زيادة الأعباء الضريبية على مواطنها المنتفض أصلا على غلاء المعيشة – سيكون خفض حجم إنفاقها العسكري، علما بأنه أعلى مستوى مما يعتبر نسبة مقبولة من حجم الإنفاق العام في دول الغرب الكبرى.. وذلك يوحي بأن حكومات إسرائيل المقبلة قد تكون أكثر استعدادا من ذي قبل لتقبل تسوية سلمية لنزاع الشرق الأوسط، خصوصا إذا أعادت الانتفاضة الاجتماعية أحزاب اليسار والوسط إلى سدة الحكم، وعمليا، وللمرة الأولى منذ قيام الدولة عام 1948، أتاحت مظاهرات تل أبيب للشارع الإسرائيلي – كما للشارعين التونسي والمصري قبله - فرصة اكتشاف امتلاكه نفوذا سياسيا أضخم بكثير مما كان يتصور، ما يعني أنه بات من الصعب على أي رئيس حكومة أن يتجاهل بعد اليوم توجهات الشارع.

وعليه، قد تكون إحدى مفارقات التاريخ أن ننتقل من ربيع عربي إلى ربيع شرق أوسطي يجمع، في صدفة خير من ألف ميعاد، نهاية الديكتاتوريات العربية ونهاية اليمين الإسرائيلي.. معا.