للنظام السوري: الدولة «من أجل الإنسان».. لا العكس

TT

في الأزمة السورية: تزامنت ظاهرتان: ظاهرة الوعود بالإصلاح بإسراف، وظاهرة إراقة الدماء بكثافة، ومع مرور الأيام اثاقلت خطوات الإصلاح، بينما نشطت وتقدمت خطوات الضرب والقتل والفتك. وهذا هو السبب الجوهري في اتساع نطاق المظاهرات والاحتجاجات وتتابعها بمعدلات تصاعدية.. نعم. لقد كثرت الأقوال والوعود بالإصلاح، بل تمثلت - نظريا - في عناوين لقوانين عديدة، لكن «الأفعال» الإصلاحية قلت أو انعدمت. وهذه مفارقات حادة حملت الناس على فقدان الثقة بالوعود، وهو فقدان له موجباته الموضوعية، ومنها:

أولا: أنه منذ بدء الأزمة تدفقت الوعود الإصلاحية، ولكن حتى الآن لم يحصل شيء جدي «!!!»، على حين أنه خلال المدى الزمني للأزمة، كان يمكن أن تنجز خطوات إصلاحية حقيقية.. وليس صحيحا: أنه من الضروري وجود مناخ هادئ كشرط لازم لكل إصلاح، ذلك أن الأجواء الملتهبة هي فرصة مواتية أيضا للإصلاح حين تتوافر الإرادة الجازمة في هذا الاتجاه.. يضم إلى ذلك: أن إنجاز الإصلاح هو ذاته عامل مهم وحاسم من عوامل خفض التوتر والغليان.. وكثير من الإصلاحات - في تاريخ الأمم - جرى في أجواء ملتهبة فنجحت.

ثانيا: إن العقود الأربعة التي حكم فيها النظام السوري الراهن: سوريا: سبب من أسباب فقدان الثقة. فلو أنه في كل عام من الأعوام الأربعين حصل «نصف إصلاح» في هذا الملف أو ذاك لكان حاصل الجمع «عشرين إصلاحا» تاما على المستويات كافة.. والملفات المهمة التي تنتظر الإصلاح في سوريا ليست أكثر من عشرين ملفا حيويا، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو أمنية.

إن هذا الإصلاح بـ«التقسيط» لم يحصل مما يدل على غياب إرادة الإصلاح، وهو غياب راكم المشكلات وعقدها تعقيدا.. من هنا، فإن من أسباب ما تتخبط فيه سوريا ترك أو إهمال ما هو «اختياري» من الخطط والقرارات والأفعال الإصلاحية: تركا يؤدي إلى ما هو «اضطراري»، أي مباشرة هذه القرارات والأفعال تحت ضغط الاضطرار، وهو اضطرار مثقل بالحرج، وقلة الجدوى، وقسوة المعاناة، وفداحة التكاليف السياسية والأمنية والاجتماعية.. ولقد تردد كثيرا في الإعلام السياسي السوري: أن وراء ما يجري في هذا البلد العربي «مؤامرة خارجية».. وإذا سلمنا بهذه المقولة، فإن السؤال البدهي - ها هنا - هو: وهل تؤدي المؤامرات الخارجية عملها ووظيفتها إلا من خلال «فتوق» في الجبهة الداخلية، لا نقصد بالفتوق «شراذم عملاء»، بل نعني: أخطاء النظام وخطاياه.. ومن هذه الخطايا: كبت الحريات.. وقسوة التعامل مع المخالفين.. وتعطيل الإصلاح الذي لا تعيش دولة، ولا يعمّر نظام من دونه.. ومن البراهين العملية على ذلك: أن القمع الشديد للمطالبين بحقوقهم: حرك العالم كله ضد النظام السوري، ولا سيما أنه قمع قد طال مداه وتكاثرت ضحاياه.. ولنقل بصراحة جازمة مكررة مؤصلة: إننا ضد كل تدخل أجنبي أو خارجي في أي بلد عربي، خاصة تدخل الغرب باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان. فنحن لا نثق في حرص الغرب الصادق على بسط الديمقراطية والحريات العامة في الوطن العربي. فتناقضه في هذا المجال يحفز كل ذي عقل وضمير على رفض دعاواه الكذوب هذه.. أليس هذا الغرب - أميركا خاصة - هو الذي صنع الديكتاتوريات العسكرية والمدنية في منطقتنا هذه، ثم أمدها بأسباب الحياة والحماية نحو نصف قرن مريب كئيب معيب؟.. أليس الغرب نفسه هو الذي تعامل مع هذا النظام السوري نفسه منذ أن وجد، وهو يعلم بيقين أنه نظام غير ديمقراطي؟!.. نعم. نحن ضد أي نوع من التدخلات الأجنبية في الأوطان العربية: بذريعة نشر الديمقراطية، أو بذريعة الشفقة بالشعوب العربية!!. فلو كان عند الغرب شفقة من هذا النوع: لما قسا على شعب عربي كامل وهو الشعب الفلسطيني: قسا عليه بتمكين إسرائيل من احتلال أرضه، وقسا عليه بدعم إسرائيل سياسيا وأدبيا وماديا ضد حقوق الشعب الفلسطيني وأمانيه في حياة حرة كريمة كسائر شعوب الأرض.. نعم.. نحن ضد كل تدخل خارجي في أي قطر عربي. ولقد كتبنا - في هذه الصحيفة - 57 مقالا ضد الغزو الغربي - بقيادة أميركا - للعراق. بيد أننا ضد «العوامل الداخلية المريضة» التي تتسبب في التدخلات الأجنبية.. وتمام هذه النقطة: أن النظام السوري إذا كان جادا أو صادقا في حكاية المؤامرة الأجنبية، فإن الموقف الصحيح القوي الشريف الصدوق الذي يسد كل طريق على كل تدخل أو مؤامرة أجنبية هو: الإسراع بتجريد «العدو المفترض» من كل ذريعة وتعلة، وذلك بتحقيق ناجز لمطالب الشعب السوري في الحريات العامة، والأمن، والكرامة، وسائر الحقوق التي للآدميين.. وأول هذه الحقوق وأولاها بالتقديم والتحقيق: الكف الناجز عن إراقة دماء الناس.

إن للإنسان حقوقا كثيرة، بيد أن محورها الأساس هو «حق الحياة». فإذا أهدر هذا الحق بالقتل: أهدرت - من ثم - الحقوق الأخرى كافة، لأنه لا يستطيع مقتول أو ميت أن يتمتع بحق الحرية مثلا.. وهل بلغكم أن موتى خرجوا من قبورهم يتظاهرون مطالبين بالحرية والكرامة؟!.

ومن أجل ماذا يقتل الإنسان ظلما؟.. من أجل الحزب؟.. أم من أجل الدولة؟. ولكن الدولة ذاتها - في المفهوم الصحيح - هي من أجل الإنسان. وليس العكس، بمعنى أن الدولة إنما وجدت لتحافظ - بادئ ذي بدء - على «حياة الإنسان»، فإذا قتلته لكي تبقى فإنها تفقد - بهذا السلوك الباغي - مسوغ وجودها، وأصل وظيفتها.. والإنسان الواحد الفرد يمثل النوع كله.. قد لا يستطيع طاغية سفاح أن يقتل 7 مليارات إنسان هم سكان الكوكب الآن، ولكنه بقتل واحد منهم ظلما، يقتلهم جميعا بنص الآية التي أنزلها خالق الإنسان جل ثناؤه: «من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا»، ذلك أن الاستهتار بحياة إنسان فرد: ذريعة فكرية وعملية للاستهتار بحياة الناس جميعا.

إن الدم البشري عالي القيمة، مهيب الحرمة. ولذلك كان «أول ما يقضى بين الناس في الدماء» يوم القيامة كما نص على ذلك هذا الحديث النبوي الشريف.