الصحافة العربية وأحداث الشغب في لندن

TT

أحداث الشغب والسلب والنهب في إنجلترا (وليس بقية أنحاء المملكة) كانت فرصة للتأمل من عدة زوايا ربما ما يهم القراء منها هو كيف يرى «الآخر» ما يحدث من خلال صحافته (وأعني متنوعة مسموعة ومقروءة ومرئية إذ لا أستخدم كلمة «إعلام»).

المعروف أنه كلما ازدادت قبضة الحكومات الشمولية إحكاما وتناقصت حرية التعبير، كلما اقترب خطاب صحافة البلد المعني من خطاب النظام الأوتوقراطي، الذي يخدمه خلق وهم أن الآخر (هنا الصحافة البريطانية) في خدمة، أو جزء من مؤامرة، «عدو خارجي» ضده. الصحافة في البلدان الإسلامية والعربية، دائما ما تتهم الصحافة البريطانية، بتقديم صورة مغلوطة عن بلدانهم؛ وهي تهمة قصفتنا بها فضائيات أسكنتها تغطيتها لأحداث إنجلترا بيوتا زجاجية.

أعلى أصوات هذه التهم مثلا تلفزيون «برس تي في»، المملوك لنظام طهران، ويبث من لندن بحرية تامة على موجة رخصتها هيئة الاتصالات في بريطانيا التي لا يخطر لمسؤول فيها الاحتجاج برسالة تذكرهم بضرورة احترام لائحة الحيادية والتوازن التي وقعتها المحطة رغم تحول خطابها إلى بث عدائي مباشر.

المحطة كررت بث (ونشرت على موقعها) معلومات وصلت حد الهزل بدعوة وزارة الخارجية الإيرانية، الأمم المتحدة للتدخل «لكبح جماح البوليس البريطاني» وطالبت لندن «بفتح حوار مع المحتجين» بينما عرضت إرسال جماعة مراقبة حقوق إنسان إيرانية!!

أما وكالة أنباء الكولونيل القذافي وتلفزيونه فنقلا عن زعيمهما (الذي لم ينتخبه أحد) مطالبته رئيس الوزراء البريطاني المنتخب من شعبه بالاستقالة! ورغم طبيعتها الهزلية؛ يمكن فهم الدوافع السياسية وراء التصريحات الليبية والإيرانية لصدورها عن ديكتاتوريات ترد بعنف دموي على أي مظاهرة سلمية لا يرتبها النظام.

لكن، لا أفهم تسمية صحافيين في فضائيات عربية أعمال السلب ونهب المحلات والسرقة بالإكراه من جانب عصابات مراهقين بـ«احتجاجات» ومظاهرات؛ حيث لم تحدث مظاهرة واحدة.

اللغة الإنجليزية تفرق بين demonstrations مظاهرات، جمع مظاهرة، وriot حيث لا كلمة عربية تقابلها. وحتى تعبير «أعمال الشغب»، غير دقيق إلا بإضافة عبارة «العنيفة المتسببة في خسائر». وبينما المظاهرة، يعلن عنها مسبقا (للمشاركة فيها) تعبر عن مطالب سياسية أو مهنية؛ أو احتجاجا على سياسة يسعى المتظاهرون لتغييرها؛ فإن riot، تنشب تلقائيا، مفاجئة، بلا إنذار، وتتطور بسرعة إلى عنف بلا هدف أو معنى وتستمر حتى تقمع أو ينصرف أصحابها.. وقد تتحول المظاهرة إلى riot وفي اللحظة نفسها يقرر منظمو المظاهرة إنهاءها ويدعون المشاركين للانصراف ويقطعون صلتهم بأحداث العنف.

المظاهرة تقع دائما في مكان عام، بينما الـriot يمكن أن تنشب في أي مكان (كتحطيم نزلاء سجن لمحتوياته) على يد أفراد يرتجلون التنظيم لمكاسب لحظية، كالتعاون في تحطيم واجهة محل لنهب محتوياته.

يوم الاثنين تعرض زملاء صحافيون للاعتداء وسرقة تليفوناتهم وكاميراتهم ونقودهم، وهو ما لا يفعله محتجون يريدون إيصال رسالتهم عبر الصحافة بالتعاون معها.

أكثر ما يثقل على النفس حرفيا أن أضطر لتصحيح معلومات أساسية لزميل أو زميلة أثناء بث حي على الهواء–وهو أمر يتكرر في الفضائيات العربية ومنهك ذهنيا في البحث عن لغة لبقة لا تحرج الزملاء.

للأسف وقعت الفضائيات العربية في أخطاء مفهومية أساسية، إما بسبب الكسل في البحث عن مصادر متنوعة، أو بالجهل بطبيعة المجتمع الإنجليزي وثقافته وتاريخه، وأيضا بالنظام الإداري فيه. وهذا عذر أقبح من ذنب، لأن التعليق على الأحداث وتحريرها يتطلب مراجعة سريعة للخلفية بكل أبعادها، خاصة إذا كانت في بلد ليس للمتفرجين أو القراء دراية بتفاصيله.

طوال عملي الصحافي فرضت أحداث مناطق غير مألوفة نفسها علينا. في شبابي كنا نسرع لدراسة الخلفية الكاملة عن الأحداث والمناطق، من المكتبات والأكاديميين والأرشيف وسفارات هذه البلدان، قبل أن نكتب كلمة أو نبث دقيقة واحدة. اليوم مع ثورة الاتصالات والإنترنت لا عذر للصحافيين، إذ يمكن معرفة التفاصيل الإدارية والتنظيمية لعمل البوليس في مدن إنجلترا والمقارنة بأحداث مشابهة في السنوات الماضية، في دقائق بطرق إلكترونية.

عجز بعض الصحافيين العرب–خاصة من بلدان شمولية، البوليس فيها مركزي الإدارة–عن استيعاب واقع لامركزية البوليس في إنجلترا حيث مهمة وزارة الداخلية تنسيقية وتشمل إدارات أكثر اتساعا من البوليس (كالهجرة، والباسبورات والإقامة والأمن المباحثي). كل مجلس محلي أو مقاطعة لها حكمدارية بوليس مستقلة، بميزانية من المجلس المحلي، وتخضع إداريا لسياسي منتخب، كالعمدة في حالة لندن، أو مجلس المقاطعة أو المدينة المنتخب.

ومثلا رأينا «استعارة» حكمدار بوليس لندن قوات إضافية من مقاطعات مجاورة ككنت، وصاري، وساسيكس.

ولم يكتف بعض مقدمي البرامج بهذا الخطأ بل استخدموا تعبيرات كـ«مظاهرات احتجاج» و«محتجون» لوصف مرتكبي أعمال يعاقب عليها القانون الجنائي كسرقة ممتلكات وإتلافها، ونهب المحلات وحرقها. بل وصف البعض أعمال الشغب بأنها «احتجاج على سياسة الحكومة الاقتصادية» لدرجة أنني، أثناء بث حي، وعدت بمكافأة ألف جنيه (لا أمتلك حتى ربعها) لمن يعثر على صورة واحدة للافتة تندد بسياسة الحكومة الاقتصادية في أي من 45 موقعا لأحداث العنف.

في قمة عنف نهب المحلات في كرويدن حيث حرقت شركة أثاث من عدة مبان كان أقصى عدد للمراهقين الناهبين للمحلات أقل من 100 (مقارنة بنصف مليون متظاهر سلمي ضد سياسة الحكومة في شهر مارس/ آذار). عدد عصابات ناهبي المحلات المشتبكين مع البوليس في كل موقع تراوح ما بين 25 و50 ممن يسميهم المصريون «صيع» أو «بلطجية».

بشقاوة المراهقة والضجر، وتقليد مراهقين آخرين شاهدوهم في نشرات الأخبار أو صور «يوتيوب» وتدفق هرمون التسترون في الدم، اشتركوا في لعبة معارك مع البوليس. وفي الوقت نفسه دفعوا بطمع اقتناء أحدث الإلكترونيات والأزياء التي يعرضها «ريكلام» التلفزيون؛ بلا مجهود العمل لكسب المال لشرائها.

أكثر البلاوي إضحاكا مقارنة صحافيين ومذيعين عرب أعمال السلب في إنجلترا بثورات أمم شمال أفريقيا والشرق الأوسط.

ولو دقق معدو البرامج ونشرات الأخبار العربية النظر في الصور التي وصلتهم على الوكالات (وجود مراسلين عرب لتصوير الأحداث كان الاستثناء من القاعدة) أو التي بثها شهود عيان على «اليوتيوب» لعرفوا الفرق.

وإذا كانت هذه الفضائيات والصحف تؤثر على، وتوجه الرأي العام في البلدان العربية، وتقدم هذه الصورة الخاطئة تماما عن حدث صوره ومعلوماته متاحة لمعدي البرامج، فهل نلوم إذن شعوب هذه البلدان على سوء الفهم والالتباس وتشوش صورة «الآخر» في أذهانهم؟