وصفة الحكيم المداوي

TT

كلمة الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى «الأشقاء في سوريا العروبة والإسلام» يوم الأحد 7 أغسطس (آب) 2011 تأتي بمثابة نصيحة تقال عبر الأثير بعدما لم يحدث الإصغاء المسؤول للنصائح المتتالية عبر الرسل، كما أنها تأتي ضمن روحية نصائح خادم الحرمين الشريفين وتمنياته وتحذيراته، وكذلك نقده للذات العربية على مستوى أهل القرار، بدءا بالكلمة التي ألقاها لدى افتتاح القمة العربية الدورية برئاسته في الرياض يوم الأربعاء 28 مارس (آذار) 2007 وكذلك «إعلان الرياض» الصادر عن هذه القمة حافلا بالتنبيه المرفق بالنصيحة، ثم في كلمته في الجلسة الافتتاحية للقمة الاقتصادية العربية في الكويت يوم الاثنين 9 يناير (كانون الثاني) 2009 التي اقتحم بها الجدار الصلب للخلافات، فأحدث بذلك مشاعر من الارتياح في نفوس الرأي العام العربي الذي ضاق ذرعا بالتوترات الناشئة عن نوايا لا يتأكد حسنها ووعود لا يتبعها التزام الواعدين بالتنفيذ. ففي القمة العربية الدورية الأولى يستضيفها وقد بويع ملكا خلفا لأخيه طيب الذكر الملك فهد بن عبد العزيز، لم يشأ ترك الكلام غير المسبوق يقوله في الجلسة المغلقة تفاديا لإحراج متعدد الاتجاهات، وإنما تعمد إبلاغ إخوانه القادة المشاركين في القمة بأنه، ببعض العبارات التي يسمعونها منه، ينوب عن الرأي العام العربي في ذلك.. وبالذات عبارة «منذ أكثر من 60 سنة أُنشئت الجامعة العربية لتكون نواة للوحدة العربية الحقيقية، وحدة الجيوش ووحدة الاقتصاد ووحدة الأهداف السياسية، وقبل ذلك وحدة القلوب والعقول. والسؤال: ماذا فعلنا طيلة هذه السنين لحل ذلك كله؟ إن اللوم الحقيقي يقع علينا نحن قادة الأمة العربية؛ فخلافاتنا الدائمة ورفضنا الأخذ بأسباب الوحدة.. هذا كله جعل الأمة تفقد الثقة في مصداقيتنا وتفقد الأمل في يومها وغدها». وعبارة «إنني على الرغم من أسباب التشاؤم متمسك بالتفاؤل، وأول خطوة في طريق الخلاص هي أن نستعيد الثقة في أنفسنا وفي بعضنا البعض، فإذا عادت الثقة عادت معها المصداقية». أما العبارة التي تلخص واقع الحال وتعني النظام البشاري فهي: «وإذا عادت المصداقية هبت رياح الأمل على الأمة، وعندها لن نسمح لقوى من خارج المنطقة أن ترسم مستقبل المنطقة ولن يرتفع على أرض العرب سوى علم العروبة».

كما أن الملك عبد الله تعمد أن تكون كلمته في القمة الاقتصادية العربية أيضا على الملأ ونيابة عن الرأي العام العربي من المحيط إلى الخليج وليست فقط أمام إخوانه القادة المشاركين في القمة.. بل حتى ليست أمام بعضهم في سياق لقاء تشاوري في الكواليس. وإذا جاز الافتراض فإن الملك عبد الله أراد في تعميم كلمته، ومن دون أن تنتقص المفردات من قامته ومن مقامه، إشهاد القادة المشاركين والرأي العام العربي على ما قاله، وبالذات العبارة التي غدت مضرب المثل في تجاوز الإساءة الشخصية من أجل استعادة التماسك للصف العربي الذي بدأ يتصدع. والعبارة هي: «اسمحوا لي أن أعلن، باسمنا جميعا، أننا تجاوزنا مرحلة الخلاف وفتحنا باب الأخوة العربية والوحدة لكل العرب دون استثناء أو تحفظ، وأننا سنواجه المستقبل بإذن الله نابذين خلافاتنا، صفا واحدا كالبنيان المرصوص، مستشهدين بقوله تعالى: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)».

ما قيل عبر الأثير من على منبر القمة العربية الدورية في الرياض ثم من على منبر القمة العربية الاقتصادية في الكويت كان تنبيها ونصيحة في الوقت نفسه. وكان التنبيه والنصيحة حاضرين فيما قاله «فلسطين فتح» و«فلسطين حماس» عندما سعى لجمعهما في رحاب مكة المكرمة (6 - 8 فبراير - شباط 2007) على موقف سواء، و«لبنان السوري – الإيراني الهوى» و«لبنان المستقوي بالتفهم العربي الدولي» عندما اصطحب الرئيس بشار إلى بيروت في لفتة غير مسبوقة في الحياة السياسية العربية، باستثناء اصطحاب الرئيس جمال عبد الناصر للنجم الفلسطيني النضالي البازغ حديثا ياسر عرفات لتقديمه إلى قادة الكرملين الذي لم تنل القضية من «قياصرته الحمر» وحتى من الحقبة الروسية الحالية سوى النزر اليسير مما في الاستطاعة تقديمه. ولقد افترض خادم الحرمين الشريفين أن هذا الاصطحاب إلى بيروت هو النهاية السعيدة لتتويج السعي لتبادل التقبل المأمول: تقبل النظام البشاري «لبنان الوطن الهادئ البال» بدل أن يبقى «لبنان الورقة غير المستقر» أو «لبنان السليب» بمفهوم النظرة السورية الأسدية، والذي لن يهدأ بال الرئيس بشار وبما يمثل إلا في استعادته عبر قوى لبنانية متهالكة في ولائها الخارجي رخوة في ولائها الداخلي. وتقبل الجمع العربي والمجتمع الدولي للنظام البشاري ما دام اختار هذا التوجه ومساعدته خليجيا ودوليا على إنجاز حالة نهوض في تنمية المجتمع السوري الذي بدأ يشكو من متاعب معيشية إلى جانب الشوق الدفين إلى حياة سياسية يمارس فيها المواطن حريته المسؤولة ومن دون الخشية المترسخة في النفوس من القبضة الأمنية. ولكي يتأكد النظام من مفاعيل التقبل المتبادل المشار إليه، فإن استثمارات خليجية أخذت طريقها على وجه السرعة إلى دمشق وبعض المدن السورية وأخذت بعض وفود أميركية وأوروبية طريقها أيضا إلى دمشق، لكن الذي حدث هو أن النظام استعمل هذا الاهتمام الخليجي - الدولي ورقة للحصول على تعهد من النظام الإيراني الصديق بأنه مقابل أن تستمر العلاقة الاستراتيجية مع الثورة الإيرانية على حالها يستعيد الفضاء السوري طائره اللبناني الذي انتقل في لحظة عاصفة إلى التغريد في فضاء العم سام وشركائه في السرب الدولي. وفي تقديرات الرئيس بشار فإن الصديق الإيراني قادر على ذلك نتيجة أن ورقة حزب الله هي الأقوى والأكثر تأثيرا في لبنان. لكن التعهد بالإعادة يقابله تعهد بالمقابل من النظام البشاري بالإبقاء على مسافة قريبة من إيران بعيدة مما سعى إليه الملك عبد الله بن عبد العزيز ولخصها وبما لا يكون هنالك أي عسر في تفسيرها، بعبارة «وعندها لن نسمح لقوى من خارج المنطقة أن ترسم مستقبل المنطقة ولن يرتفع على أرض العرب سوى علم العروبة».. قالها في «قمته العربية الدورية» في الرياض بعدما تسلم مقاليد الحكم. وهنا وجد الرئيس بشار نفسه لا مع نفسه بخير ولا مع الصديق السعودي بخير. كما وجد نفسه أسير معادلة صعبة ليس من السهل حلها على الطريقة التي كان يعتمدها والده الرئيس الراحل فكان الاختلال الصاعق المتمثل في الانتفاضة المتدرجة على النظام.

الآن ونحن نتأمل في الذي يحدث في سوريا مستحضرين مواقف المملكة العربية السعودية من «سوريا الأسد الأب» ثم من «سوريا الأسد الابن» من خلال ما قيل على لسان الملك عبد الله بن عبد العزيز بالذات، نتساءل: لماذا لم يرَ الرئيس بشار في حرص الملك عبد الله ونخوته ما يشكل منذ اللحظة الأولى لتسلمه الرئاسة وريثا لوالده، الضمانة لتقويم نهج لا بد من تقويمه وتشكل وفاة الرئيس الأب اختراقا لاستحالة التقويم، في حين أن التقويم من جانب الأسد الابن بشار يشكل تحصينا لحكمه بحيث لا تعود النظرة إليه أنه امتداد من النقطة التي بدأت برحيل والده وستتواصل مع توريث ابنه أي (حافظ الأسد الحفيد).. وهكذا؟ وذلك على أساس أن التوريث صعب في البداية، أي عند حدوثه، أما بعد استقرار المحاولة الأولى فإن الناس تعتاد على ذلك. هذا هو الحاصل في كوريا النووية شبه المهجورة في عالم يتطور.

لقد قيل للرئيس بشار، وبما لا يتطلب الكثير من التعمق في قراءة الكلام بشكل غير مباشر، ما من شأنه أن يقيه متاعب حدثت وتحولت إلى تعقيدات بعدما اختلطت الهتافات بالقذائف بالدماء وترك الأمر للغوغاء الأمنية تعالج ما يتطلب علاجه بالتعقل. وعندما ضاقت مساحة الصبر وكادت فسحة الأمل تندثر، جاء الملك عبد الله بن عبد العزيز يستدعي السفير وليس يسحبه، ويقول كما علاجاته، كحكيم واسع الصدر كاتم الغيظ متجاوز إساءة تأتي بالانفعال أحيانا وبالأقوال أحيانا أخرى، للأزمات عند استعصائها وعلى الملأ عبر الرسالة المذاعة ما من شأنه أن يكون علاج مرحلة ما قبل الترنح: «إن ما يحدث في سوريا لا تقبل به المملكة العربية السعودية؛ فالحدث أكبر من أن تبرره الأسباب، بل يمكن للقيادة السورية تفعيل إصلاحات شاملة سريعة، فمستقبل سوريا بين خيارين لا ثالث لهما: إما أن تختار بإرادتها الحكمة، وإما أن تنجرف إلى أعماق الفوضى والضياع لا سمح الله». وهو لا يطلب ذلك متأخرا، وإنما بعدما بات واضحا أن الآتي ربما يكون أعظم؛ ذلك أن «أعماق الفوضى والضياع التي ينبه من تداعيات حصولها الملك عبد الله بن عبد العزيز» أشقاءنا في «سوريا العروبة والإسلام» مع لفت انتباه رقيق إلى «مواقف المملكة العربية السعودية في الماضي مع سوريا الشقيقة شعبا وحكومة»، ربما تكون انقساما عسكريا ومناطقيا، لا قدر الله. وتلك لحظة تزلزل الأرض السورية فيها زلزالها، بحيث تنقسم اثنتين، وإذا حدث ذلك فإن نزعة التقسيم في لبنان تصبح بطبيعة الحال محتملة الحدوث. وهذا يفسره انضمام سلاح النفط والغاز تحت الماء مؤقتا إلى السلاح الآخر على الأرض دائما، على نحو ما قرأناه بين سطور كلمة الأمين العام حزب الله السيد حسن نصر الله يوم الثلاثاء 26 يوليو (تموز) 2011 في مهرجان «الكرامة والانتصار» لمناسبة الذكرى الخامسة «حرب يوليو 2006»؛ حيث قال أمام حشد ألوفي: «يوجد لدى لبنان في مياهه الإقليمية على الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة ثروة هائلة من النفط والغاز تقدر بمئات مليارات الدولارات. ومن يمكن أن يعتدي (رسالة إلى إسرائيل) على منشآت النفط والغاز للشركات التي تريد أن تأتي وتعرض مناقصات مع لبنان وتبدأ بالتنقيب والاستخراج، عليه أن يعلم أن لبنان قادر على حماية ثروته (يقصد أن المقاومة جاهزة للرد)». ومعنى كلام السيد حسن الضمني وتعزيز هذا الكلام من جانب بعض رموز الحزب وعلى اختلاف مواقعهم القيادية، أن مياه البحر حيث النفط والغاز هي امتداد لأرض المقاومة. وكما الأرض في عهدة سلاح حزب الله، فإن المياه وما تحتها هي في عهدته أيضا. وهذا يعني في حال زلزلت الأرض السورية زلزالها وانقسمت سوريا اثنتين ولم تعد سوريا البشارية الممر الاستراتيجي حزب الله والمقر الآمن لغرفة العمليات السياسية والتخطيطات لخريطة المنطقة بالمفهوم الإيراني الطموح، أن ينقسم لبنان اثنين أو أربعة ويصبح حال ثروة النفط المليارية توأم ثروة النفط السودانية التي بسببها انقسم السودان، وكانت حصة المنقسم وهو الجنوب هي المجزية نفطا كما ستكون حصة الجنوب اللبناني في حال لا قدر الله حدث الانقسام هي المجزية.. مع اختلاف الطرف المقتدر للحماية، حيث أميركا بالنسبة إلى الجنوبيين في السودان بينما هي إيران بالنسبة إلى «لبنان الجنوبي» بافتراض أن إيران ستنجو من المكيدة التي ينسجها المجتمع الدولي في غرفة العمليات الأميركية. والله أعلم.

ومن شأن الأخذ وبمسؤولية بالوصفات المتتالية للحكيم المداوي عبد الله بن عبد العزيز يمكن تفادي ما سيحدث بعدما حصل المبغوض المتواصلة تداعياته حتى الآن في ليبيا واليمن وسوريا.. مع ملاحظة أنه في حال شفاء سوريا تتعافى المنطقة.