أيام فاتت.. أيام الجراديغ

TT

أشرت في محاضرة ألقيتها في بيت السلام، مؤسسة الحوار الإنساني بلندن، إلى موضوع الأمن والأمان واستشهدت بقوله صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مجهولتان: الصحة والأمان» في معرض المقارنة بين العهدين الملكي والجمهوري في العراق. أجرى الجمهوريون إصلاحات كثيرة كالضمان الاجتماعي والإصلاح الزراعي وتأميم النفط ومساواة المرأة وتحررها... إلخ. بيد أنهم فشلوا في تحقيق الأمن والأمان والحرية واحترام القانون. تجسم ذلك في رأيي في حياة الجراديغ في بغداد. الجرداغ: عشة صغيرة بدائية من القصب والحصير والقضبان الخشبية يقيمها المواطنون صيفا على ضفاف دجلة للأنس ليلا، ويتخلون عنها في الخريف، يضعون فيها أثاثا بسيطا وينامون فيها أحيانا، يزاولون فيها مطلق الحرية فيما يشربون ويطبخون ويغنون ويرقصون ويعزفون الموسيقى ويستمعون للراديو والحاكي، يسبحون في النهر ويتبادلون الشعر والغرام، لا أحد يسألهم عما يفعلون أو يسرق شيئا من أثاثهم في النهار. الجرداغ دولة مستقلة، لا تحتاج لإجازة من السلطات ولا ترى فيها شرطيا يسهر على الأمن والنظام.

وكل جرداغ يحترم حقوق وسلوك وهدوء الجرداغ المجاور. لا أحد يكدر صفو جيرانه. خرجت يوما من أحدها لأتمشى على الشاطئ. أسرع إليَّ صاحب الجرداغ وقال: أرجوك خالد لا تذهب في هذا الاتجاه غربا. قلت: وما المانع؟ قال: هناك جرداغ يهود، وبناتهم يخلعن ملابسهن ويلبسن المايوه ليسبحن في النهر. لا تقترب منهن وتنغص عليهن حريتهن ومتعتهن. أطعت ومشيت شرقا. هكذا سادت في العهد الملكي روح الاحترام المتبادل.

هذا ما يجعلنا نحنُّ لتلك الأيام التي أخذنا نسميها أيام الخير، على الرغم من قلة خيراتها من طعام وعمل ورواتب. العهود الجمهورية وفرت للشعب الغذاء والكساء والدواء، فارتفع عدد السكان من 3 ملايين نسمة في 1920 إلى 27 مليونا في الوقت الحاضر. تكاثر السكان، كما أفاد جان جاك روسو، يعني المزيد من الرفاه وتوافر الطعام. وهو ما ينطبق أيضا على معظم البلدان العربية التي ارتفع عدد سكانها بشكل مثير. وعلى الرغم من ذلك فإنك تجد معظم العراقيين يشكون تعاستهم ويلعنون حياتهم الحاضرة ويسعون لهجرة بلادهم ويحنون لأيام الخير، أيام العهد الملكي. يعود ذلك لانهيار صرح القانون وغياب الاحترام المتبادل وقمع الحريات الشخصية، ومن وراء ذلك كله غياب الأمن والأمان. لا أحد يستطيع اليوم أن يشيد جرداغا لنفسه على شاطئ النهر، ولا أن يبقى خارج بيته بعد غروب الشمس، بل ولا حتى أن يعيش ويأكل ويشرب ويفكر ويتكلم بالشكل الذي يحلو له. وهذا شيء يتناقض مع النفسية العراقية الثائرة والمتمردة. لا عجب أن نرى النفس العراقية أصبحت غارقة بروح الملانخوليا بشكل لم تعرفه من قبل.

وهكذا رحنا نسمعهم في هذه الأيام يرددون فيمن بينهم تلك الأشعار الملانخولية السوداء:

رب يوم بكيت منه فلما

صرت في غيره بكيت عليه