الهروب إلى الأمام.. على الطريقة السورية!

TT

«أسوأ من الثورة.. ما يسبب الثورة»

(فريدريك دوغلاس)

إذا كنا من المقتنعين بأن النظام السوري ما زال ممسكا بزمام المبادرة في تسيير سياسته الخارجية، فإن هذا الوضع يفرض عليه من حيث المبدأ أن يعي إلى أين يقود سوريا في هذه الأيام العصيبة. ولكن إذا ما كان قد غدا لاعبا ثانويا في صراع إقليمي أكبر منه، وهو ما يتبدى أكثر فأكثر للمتابع المدقق، فعليه أن يتحلى بالحد الأدنى من شجاعة مصارحة الشارع، ومحاولة احتواء ما يمكن احتواؤه من تفجر يستحيل ألا يفضي إلى التفتيت والفوضى.

هنا أتذكر مجددا سؤالا طرحه علي صديق بريطاني، إبان أسوأ مراحل العنف في الحرب اللبنانية، وهو «إذا كنتم كشعب لبناني تبغضون بعضكم بعضا إلى هذا الحد.. فكيف تمكنتم من التعايش بنفاق طيلة العقود السابقة؟ أما إذا كنتم ما زلتم تؤمنون بأنكم شعب واحد وستعودون في يوم ما للعيش معا.. فكيف ترتكبون هذه المجازر البشعة أحدكم بحق الآخر؟».

إنه تساؤل منطقي تماما يثير قضيتي النفاق من ناحية، وقطع خط الرجعة من ناحية أخرى. تساؤل يأتي من صاحب ذهن عملي يقرأ مسيرة التاريخ، ويقدر تبعات الحرب، ويفهم «الأساطير» التي تبني الهوية والذاكرة القوميتين.

لكن ما نشاهده في «سوريا البلد» ونسمعه من «سوريا النظام» يؤشر إلى أن من اعتاد الهروب إلى الأمام من العيوب البنيوية في مؤسسة حكمه يجد صعوبة في تغيير عادته. وأيضا على أن من استمرأ إيهام نفسه وشعبه بالقدرة على لعب أدوار أكبر من حجمه، وفي وجه خصوم يستطيعون التأثير على دول أكبر من سوريا، بات سجين ذهنية ترسخت وتيبست.. ما عاد معها متيسرا له الانطلاق ببداية جديدة.

وهنا نلحظ عبثية «محاولات» جهات غربية العمل على فصل دمشق عن طهران. والأهم من هذا، التنبه إلى استمرار «محور طهران - دمشق» في الطريقة التي يدير بها «ممانعته» الظاهرية لإسرائيل والنفوذ الغربي في الشرق الأوسط.. يسهل لإسرائيل، ومن هم وراء إسرائيل – من حيث يدري أو لا يدري – تنفيذ مخطط الفرز الديني والمذهبي الكبير في معظم أنحاء المنطقة.

وسائل الإعلام السورية، والتوابع الذيلية لإعلام دمشق في لبنان، ماضية قدما في التعتيم على الانتفاضة الشعبية التي تنتشر في مختلف أرجاء سوريا، على الرغم من القمع العنيف واستفراد مدن البلاد وأريافه مدينة مدينة وقرية قرية. غير أنها في تضليلها – بأسبابه المفهومة – تتجاهل الكراهية العميقة التي تولدها «القبضة الحديدية» بمرور كل يوم، كما أنها تتجاهل علامات الاستفهام التي تطرح الآن، داخل سوريا وخارجها، عن الاستراتيجية الحقيقية للنظام. ثم علينا ألا ننسى أن أشد المدافعين في لبنان عن ممارسات دمشق بحق مواطني سوريا يحملون مشروعا مذهبيا واضحا. فهل ما زال النظام يريد حقا مواصلة حكم «سوريا واحدة موحدة»؟ أم تراه أقنع نفسه بأن عليه استنهاض بدائل «جيوسياسية» سواء لابتزاز خصومه.. أو التوجه لتنفيذها على الأرض عبر اعتماد سياسة «الأرض المحروقة» والفرز السكاني؟

من اللافت تحليل الاختلاف النسبي في زخم الانتفاضة الشعبية على امتداد الأراضي السورية، وكيف حقق النظام نجاحا نسبيا في بث الخوف في بيئات طبقية وفئوية معينة – بعضها في مناطق جغرافية ذات حساسية خاصة – رابطا احترام مصالحها الوجودية والاقتصادية ببقائه حيث هو. وفي المقابل، رصد ما نشهده من ردود فعل متفاوتة القوة من قبل النظام على مناطق معينة من سوريا، مما يشي بأن ثمة جهات داخل هرم السلطة ربما كانت تتحسب لـ«السيناريوهات» الأسوأ منذ الآن.

واشنطن تدعو الآن إلى تضييق الخناق على نظام دمشق، وهي تلتزم اليوم عبارات هي الأكثر مباشرة وقطعا منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية السورية.

لأول مرة سمعنا بالأمس من كبار المسؤولين الأميركيين أن نظام الرئيس «فقد شرعيته» - بصيغة الماضي - بعد خمسة أشهر تقريبا من إبقاء واشنطن باب التسامح مفتوحا أمامه. وهذا الالتزام يستحق هذه المرة أن يؤخذ على محمل الجد على الرغم من تدني صدقية المواقف الأميركية في تعاطيها مع أول انتفاضة شعبية عرفها الشرق الأوسط خلال العقدين الأخيرين، ألا وهي «انتفاضة 14 مارس (آذار)» 2005 في لبنان.

يومذاك أوحت واشنطن للبنانيين بأنها بمجرد تجاوز اللبنانيين حاجز الخوف، وكسرهم هيمنة «الجهاز الأمني السوري - اللبناني»، ستحمي إنجازهم من رد الفعل الشرس ضدهم. غير أن المعطيات اختلفت بعد «الانقلاب» الفرنسي على المنتفضين اللبنانيين بقيادة الرئيس نيكولا ساركوزي، والتراخي الذي أظهرته دبلوماسية البيت الأبيض في عهد باراك أوباما إزاء استعادة «محور طهران – دمشق» نفوذه بقوة السلاح.

أما اليوم، فالصورة ما عادت تحتاج إلى «رتوش». وما تفعله «القبضة الحديدية» مع «شبيحتها»، وما يبدو أنها تخطط له في اللاذقية وغيرها من مدن الساحل بعدما فعلته في جسر الشغور وجبل الزاوية وأرياف حماه وحمص، تطورات مقلقة جدا.

مقلقة جدا جدا على وحدة سوريا ونسيجها الاجتماعي.