آخر رشفة في الفنجان

TT

لن يكون إغلاق «السيتي كافيه» عاديا. فربما سوف يؤرخ إغلاقه ذات يوم على أنه ختام مقاهي النخب في بيروت. بل ربما المقهى كما عرف في القرنين الماضيين، حيث كان كبار الشعراء وكبار الأدباء ومشاهير القبضايات والنجوم والفنانون، يلتقون معظم أوقات النهار، معظم أوقات العمر. قبل «السيتي كافيه» الذي افتتح مع نهاية حرب لبنان، كان منح دبغي قد أسس «الهورس شو»، الذي معه تأسس وقام شارع الحمرا، الذي انتقلت بيروت إليه، من ازدحام وسط المدينة، الذي عاد إلى الحياة مع رفيق الحريري، الذي طرح منه إلى «موته المعلن»، كما في رواية غابرييل غارسيا ماركيز.

قبل «الهورس شو» كان الشعراء والأدباء (الأخطل الصغير، أمين نخلة، جورج جرداق) يلتقون في مقهى «سينما روكسي» في ساحة البرج. ومع افتتاح «الهورس شو» انتقلت إليه الطبقة الجديدة من الكتاب والفنانين والسياسيين. وبسبب وجود «النهار» على مقربة منه، اجتذب المزيد من أهل المهنة. وربما للمرة الأولى لم يكن صاحب المقهى تاجرا، فهو أيضا خريج الجامعة الأميركية القريبة.

أغلق «الهورس شو» أبوابه مع بدايات الحرب، وافتتح منح دبغي «السيتي كافيه» مع نهايتها. ولم يكن الموقع ولا المكان نفسه يوحي بجو المقاهي واللقاءات. لكن أهل الزمن الماضي لحقوا بدبغي إلى هناك. ومع الوقت نسينا تماما أن «الهورس شو» أشبه بمكاتب مصرف منه بمقهى. وكان لكل يوم عنوانه. فصباح الأحد كان ملتقى الفلسطينيين. وكل ركن كان له أصحابه الدائمون: الرئيس أمين الحافظ والمفكر منح الصلح، وركن الضباط المتقاعدين، وأشهرهم مدير قوى الأمن الداخلي اللواء عمر مخزومي واللواء سامي الشيخة رئيس المخابرات، وإلى طاولة أخرى كان يداوم المدير (الحالي) لأمن الدولة الجنرال إدوار منصور.

لكن أحدا لم يكن يتحدث في القضايا العسكرية والرتب وإنما في قضايا السياسة والثقافة. ولم يخل المكان من الفنانين وحواراتهم. وكان المقهى نفسه يتحول بصورة مستمرة إلى معرض للوحات الرسامين الناشئين، الذين يشجعهم منح على دخول هذا العالم بمنحهم الجدران. وقبل اغتياله كان الرئيس رفيق الحريري يأتي ماشيا من قصره إلى المقهى المجاور ليتناول كوبا من البوظة ويقيس نبض المدينة وأحوال شعبيته.

انتقل المقهى البيروتي إلى «المول»، إلى الداخل، ولم يعد على الرصيف. وبعضه صار داخل الفنادق. وشرد إغلاق «السيتي كافيه» أناسا كثيرين اعتادوا اللقاء فيه. وبالنسبة إليّ كان صندوق البريد. فكل من يجهل عنواني ويريد أن يرسل بطاقة دعوة إلى محاضرة أو عرس أو توقيع كتاب، كان يودعها «السيتي كافيه». وكنت إذا تأخرت في المجيء لسفر أو لسبب آخر، كان عمال المقهى يقرأون لي نص الدعوة على الهاتف. ومع الوقت صاروا يقررون بأنفسهم ما هي الدعوات التي لا تستحق الاتصال.

وغالبا ما كنت أذهب منفردا لألتقي منح دبغي كصديق لا كصاحب مكان. فهو مرجع خفي في نقد الصحافة والسياسة وتحليل أحوال المدينة. ومن «السيتي كافيه» كانت بيروت تبدو على حقيقتها وفي حجمها. فكم مرّ على روادها من تحولات في زمن لبنان، البلد المقيم في مسرح.. أحيانا هو المتفرج، وأحيانا هو المهرج، وأحيانا هو البؤساء.