رسالة قوية من قفص مبارك

TT

«نحن المصريين ونحن نشاهد اليوم الرئيس السابق حسني مبارك ماثلا في قفص الاتهام، في سابقة هي الأولى في تاريخ مصر الطويل، فالمصريون القدماء أيام الفراعنة ألهوا وقدسوا حاكمهم.. والمصريون المحدثون قتلوه، أما مصر الجديدة، مصر ثورة 25 يناير، مصر الديمقراطية، فلا تؤله الحاكم ولا تقتله.. ولكنها تحاكمه محاكمة عادلة. فتلك هي أعلى مراحل النضج السياسي».

هذه هي الفقرة الأولى من مقال للدكتور أسامة الغزالي نشر بصحيفة «الأهرام» في 3 أغسطس (آب)، الأربعاء. ويبدو لي أن مقال الغزالي نجح في إيجاز تاريخ المصري في فقرة. ومن الواضح أن الثالث من أغسطس 2011 سيصبح يوما تاريخيا، ليس بمصر فحسب، وإنما في منطقتنا بأسرها. ويكشف ذلك أنه من الممكن بالفعل التخلص من الاستبداد والطغيان عبر الديمقراطية والمحاكم، وليس الانتقام والاغتيال.

عندما قص كتابنا المقدس القرآن قصة فرعون، قال: «فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرا مِنْ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ» - سورة يونس 93.

كان مبارك مستلقيا على سرير مستشفى. ربما كان هذا أكثر أيام حياته تواضعا. في ذلك اليوم، مر بموقف لا يود أحد معايشته. كانت عيناه غائرتين وشبه مغلقتين. ويعني ذلك أنه كان من المستحيل بالنسبة له حضور المحاكمة والنهوض على قدميه. بدا الوضع غريبا ومستعصيا على التصديق؛ رجل حكم مصر أكثر من أي حاكم آخر في تاريخها الحديث يقبع داخل قفص، والعالم كله يتابع. واحتل المشهد عناوين الأخبار، وغطت صوره الصفحات الأولى من الصحف، واكتسب أهمية أكبر عن ميلوسوفيتش وصدام.

وعندما شاهدنا ردود أفعال الساسة ووسائل الإعلام في إسرائيل، اتضح أنهم فقدوا كنزا فريدا. مثلا، في 29 يوليو (تموز)، نشر ألوف بين مقالا بالغ الأهمية بعنوان «فرصة إسرائيل المهدرة» في صحيفة «هآرتس»، شرح خلاله أن: «في ظل حكم حسني مبارك، حافظت مصر على معاهدة السلام وعملت بمثابة الحارس الشخصي لإسرائيل».

ولم يكن نظام حسني مبارك حارسا شخصيا لإسرائيل فحسب، وإنما أيضا عمل كعميل لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، تبعا لما أعلنته «ستار ليدجر إديتوريال بورد» في 5 أغسطس (آب) 2011، فإنه: «في ظل برنامج التسليم خارج القانون التابع لـ(سي آي إيه)، جرى إرسال بعض سجنائنا إلى مصر».

ليس هناك شك في أن محاكمة مبارك، وموقفه الغريب بالنسبة لسرير المستشفى الذي ظهر مستلقيا عليه أثناء المحاكمة داخل القفص، ليسا بالأمر المضحك على الإطلاق، بل على العكس، إن الموقف كان جد خطير، وينطبق عليه قول الشاعر:

أمور يضحك السفهاء منها

‎ ويبكي من عواقبها الحكيم

والملاحظ أن جميع الرؤساء السابقين لأميركا عاشوا على أرضها، وبمقدورهم التنقل أينما شاءوا. وبعضهم، مثل كلينتون، يدعم ضحايا مرض نقص المناعة المكتسب، بينما يساند آخرون، مثل كارتر، حقوق الفلسطينيين، أو يكتبون سيرهم الذاتية، مثل جورج دبليو بوش. وجميعهم يعيشون في ظل احترام ورخاء. على النقيض، نجد الوضع مختلفا تماما مع رئيسي مصر السابقين، السادات ومبارك، حيث اغتيل الأول، ويقبع الآخر داخل قفص. وبإمكاننا طرح أمثلة أخرى أيضا. على سبيل المثال، مات آخر ثلاثة ملوك إيرانيين في المنفى. ولا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة للرؤساء الإيرانيين السابقين، حيث يعيش الأول بني صدر في باريس، واغتيل الثاني، ويواجه الرابع والخامس والسادس مشكلات جمة. تلك هي التجربة التاريخية لبلادنا، ومثل العملة المعدنية تحمل وجهين، أحدهما الاغتيال والثاني الموت في المنفى. وقطعا تلك دلالة على وجود مرض خطير، ولهذا أقول إنه ليست لدي أدنى فكرة حول ما إذا كان ينبغي على المرء أن يفرح أم يبكي لرؤيته مبارك مستلقيا على سرير داخل قفص. وتلك هي المرة الثانية في عمري التي أقف فيها عاجزا عن تحديد ما ينبغي أن أبديه من مشاعر، وكانت الأولى بعدما ألقي القبض على صدام، عندما كان جنديا أميركيا يفتش فمه ورأسه.

بوجه عام، يمكن القول إن محاكمة مبارك بعثت ببضعة رسائل قوية، وأود فيما يلي التركيز على أول هذه الرسائل وأقواها. الرسالة الأولى موجهة إلى الزعماء والملوك والرؤساء وغيرهم من صانعي القرار. الواضح أن مبارك لم يتعلم شيئا من مصير صدام. ولا شك أن مشاهدته في هذا الموقف كانت تجربة فريدة من نوعها، فهو رجل كان يملك سلطة مطلقة، والآن يقبع داخل قفص مع ولديه وأصدقائه وكبار أعوانه. ويعني هذا أنه إذا كانت السلطة مطلقة وهائلة، فإن نقطة الضعف الرئيسية تكمن في قلبها، بمعنى آخر في قلب وجوهر القوة المطلقة تمتزج القوة والضعف معا. وهناك قانون غريب بشأن جوهر القوة يقول إنه لدى استخدام القوة بصورة مفرطة يصيبها ضعف متزايد. مثلا في سوريا، مع كل يوم يمر، يستخدم بشار الأسد مزيدا من القوات والدبابات والرصاص ويقتل المزيد والمزيد من السوريين. ومع ذلك، من الملاحظ أن نظامه بات أضعف ويقع في مزيد من الأخطاء والإخفاقات. واعترف الرئيس السوري مؤخرا باقتراف قوات الأمن «بعض الأخطاء» خلال مقابلة عقدها الأربعاء مع وفد ممثل للبرازيل والهند وجنوب أفريقيا، الأعضاء في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.

وهذا درس بالغ الأهمية عن جوهر القوة. كان الروائي ساراماغو قد أبدع رواية رائعة بعنوان «العمى»، يتناول فيها شخصية فريدة هي ملك الجناح 3، وهو رجل طاغية قاس يحجز باقي العميان داخل مأوى تحت رحمته عبر تهديدهم بسلاح. ويمدهم بالطعام والمستلزمات مقابل أشياء قيمة من ممتلكاتهم. وعندما نفد ما بحوزتهم من ممتلكات قيمة، بدأ يطالب بالتمتع بالنساء. وتقتله زوجة الطبيب بمقص عثرت عليه في حقيبتها عندما فاض بها الكيل. ولدى وفاته، حمل مساعده سلاحه وهدد به الحشد المتجمهر ليدفعهم للعودة إلى جناحهم. وهنا صاحت زوجة الطبيب: «مع كل رصاصة يطلقها، سيزداد ضعفا!».

لقد ارتكب صدام ومبارك والأسد وعلي عبد الله صالح خطأ استراتيجيا بإيمانهم أنه عبر القوة المطلقة سيصبحون أقوى، ولم يدركوا كيف أن هذه القوة تعمي بصائرهم عن الحقيقة. إن ذروة النافورة هي بداية نهايتها! والذروة هي بداية الانهيار، وجثة فرعون في النيل، وجسد مبارك في القفص دليل على صحة ذلك.