عالم غني ولكنه مأزوم

TT

جرت العادة أن تحدث المشكلات في الدول الفقيرة، بدءا من الأزمات الاجتماعية، وانتهاء بالانتفاضات أو الثورات أو الانقلابات، ولكن العقدين الأخيرين شهدا تحولا في هذه المسألة، إذ بدأت المشكلات تنفجر داخل الدول المتقدمة، وبشكل خاص في الولايات المتحدة الأميركية وفي دول أوروبا. أحيانا تكون المشكلات من نوع خاص، مثل مشكلة تفجير برجي التجارة الدولية في نيويورك، والتي ولدت من رحمها مشكلة من نوع آخر، امتدت على مستوى العالم، وحملت اسم الحرب الأميركية على الإرهاب. ولكن.. ويا للغرابة، تنفجر المشكلات أحيانا في بلد مثل بريطانيا، الدولة الصناعية الكبرى، والدولة ذات التاريخ الاستعماري العريق، من الهند إلى فلسطين، ناهيك عن الحضارة والثقافة. ورغم ذلك تكون مشكلاتها المستجدة، تكرارا يكاد يكون حرفيا للمشكلات التي تنفجر في الدول الفقيرة.

أحياء فقيرة يتجاور فيها الأبيض والأسود والأصفر، وتنمو داخلها كالفطر عصابات التهريب والدعارة والمخدرات، ثم يقع حادث ما، وكما يحدث في كل مكان، فيطلق شرطي النار على أحد الملاحقين، ويقع قتيل، وينفجر غضب قديم متجمع، وتعم الفوضى، وتترافق الفوضى دائما مع الاشتباكات والسرقات.

حوادث أمنية بالمعنى الكامل للكلمة، والغريب أنها تقع في مدينة عريقة وغنية ومتطورة، ولكن مشاهدها تشبه تماما ما يحدث في عاصمة فقيرة متخلفة. ولكن الأمور لا تقف عند هذا الحد. يبدأ بعد ذلك الوصف والتقييم والتحليل، وهنا تظهر الدهشة. إذاعة تصف ما يحدث بأنه فعل أشخاص «محتجين»، وينطوي «الاحتجاج» على وجود خطأ كبير، يستحق أن يحتج الكثيرون عليه بالعنف وبالصدام مع الشرطة، وقد ينتج عن ذلك قتلى وجرحى. وبما أن الاحتجاج على الخطأ مشروع، فإن مواجهة الاحتجاج بالعنف تصبح أمرا غير مشروع، ولا بد هنا بعد ذلك من وجود مخطئ أو مقصر، ولا بد بعد ذلك من محاسبة. وبما أن الأمر جماعي فإن الخطأ إذن يمس الحكام والسياسات وخطط التنمية والاقتصاد والميزانيات، وكل ما إلى ذلك.

ولكن هناك من يعترض، فيطالب بإلغاء وصف «الاحتجاج»، وتقديم وصف آخر لمن تظاهر وسرق وحرق واشتبك مع الشرطة، إنهم «المجرمون». وهنا يختلف السياق كله، ويصبح الخطأ محصورا بالمجرمين الذين لا بد من اعتقالهم ومحاسبتهم وسجنهم. ورغم أن الخلاف هو بين كلمتين وحسب، فإن المجتمع بأكمله ينقسم حسب هاتين الكلمتين، وتدخل على الخط الأحزاب وأجهزة الإعلام ومناقشات البرلمان، وينطرح سؤال صعب: هل هناك حكم مقصر إلى الإجرام، أم هناك مجرمون تجرأوا إلى حد القتل؟ وكما أن السؤال صعب، فإن الجواب عنه صعب أيضا.

والطريف في هذا الإشكال، أن خلافا آخر برز حول التسميات يتعلق بالهوية. فهناك من تحدث عن المشكلات التي حدثت قائلا إنها حدثت في «إنجلترا»، ووجد من يعترض على ذلك ويطالب بقول آخر يشير إلى أن المشكلات حدثت في «المملكة المتحدة». وهنا يطرح موضوع الهوية نفسه، فالشغب في إنجلترا يعني الشغب في بلاد «الإنجليز - English»، والشغب في «المملكة المتحدة» يشمل شعوب اسكوتلندا وويلز وآيرلندا الشمالية. فأي التسميتين هي الأصوب؟

قبل بريطانيا وبعدها، يرد ذكر الولايات المتحدة، الدولة الكبرى الأعظم في العالم، وصاحبة الاقتصاد الأكبر في العالم، ومصدرة العلوم والتكنولوجيا والاختراعات، ومالكة السلاح النوعي الذي لا يملكه غيرها، وتتعرض بعد كل ذلك لأزمة اقتصادية طاحنة تصل بها إلى حد خطر الإفلاس. حدث ذلك قبل سنوات من خلال ما عرف بأزمة العقارات، وكانت أزمة واسعة وشاملة، وصلت إلى حد إفلاس عشرات البنوك وعشرات الشركات، واضطرت الدولة أن تتدخل، وأن تشتري ديون البنوك والشركات، وأصبحت الدولة هي المالك الحقيقي، وهنا حدث ما لا يمكن تصديقه، الدولة هي المالكة لجزء أساسي من الاقتصاد في أكبر بلد رأسمالي يمنع ملكية الدولة، حتى ليصح القول إن أكبر دولة رأسمالية لجأت إلى الاشتراكية لتواجه معضلتها!! والآن تواجه أميركا احتمال أزمة اقتصادية مماثلة، ولولا صبر الرئيس باراك أوباما في مناقشاته مع «الجمهوريين»، ولولا أنه توصل معهم إلى اتفاق حول زيادة سقف الديون الداخلية والخارجية، لوقعت الأزمة، وهي تواجه رغم هذا الحل احتمال أن تنفجر من جديد، وحين تنفجر الأزمة داخل أميركا فإن العالم كله يهتز، العالم الغني والعالم الفقير، وتصل الأزمة حتى إلى جيوب الناس العاديين حين يكتشفون أن دخلهم الشهري لم يعد يكفي لنفقاتهم المعتادة.

وفي ظلال الأزمة الاقتصادية الأميركية، تعيش وتنمو الأزمة الاقتصادية الفرنسية. الرئيس الفرنسي ساركوزي هو الآن الرئيس الدوري للدول السبع الصناعية الكبرى، وهو من موقعه هذا يبحث ويتابع أزمة الديون في منطقة اليورو، وأثر هذه الأزمة في إيطاليا مثلا. تكتب صحيفة «ليبراسيون» «إن ألمانيا تعتبر أن إيطاليا تواجه خطرا كبيرا مما يتطلب مساندتها من قبل صندوق الدعم الأوروبي. وبعد إيطاليا يواجه ساركوزي احتمال أزمة داخل فرنسا نفسها، وهو منح وزير ماليته مهلة أسبوع ليقترح عليه تدابير جديدة لخفض عجز الموازنة العامة، بعد أن هبطت كثيرا أسهم المصارف الفرنسية، وبعد أن قال بعض المستثمرين إن فرنسا قد تواجه احتمال تخفيض درجة تصنيفها الائتماني، بعد أن تم تخفيض هذا التصنيف لدى الولايات المتحدة الأميركية نفسها قبل أيام. وإضافة إلى ذلك فإن دولا مثل بلجيكا وإسبانيا تواجه مشكلات اقتصادية تثير القلق.

وحين تطل الأزمات الاقتصادية برأسها في أميركا وأوروبا، فمن الطبيعي بعد ذلك أن تتأثر بهذه الأزمة دول آسيا. ومؤسسة «ستاندرد أند بورز» التي بادرت إلى تخفيض التصنيف الائتماني لأميركا، هي نفسها أصدرت تقريرا جديدا اعتبر أن «آسيا ليست بمعزل عن أزمة اقتصادية عالمية جديدة، وهذا تقدير يشمل دولا من نوع الهند وباكستان وإندونيسيا» وربما الصين أيضا.

إن هذه اللمحات السريعة عن اهتزاز الأوضاع الاقتصادية في دول مصنفة كدول أولى في العالم، تؤكد مشاعر خوف لدى الكثيرين سواء كانوا أفرادا أو بنوكا أو شركات. وبديهي أن الوضع العربي سيتأثر هو أيضا بما يحدث في العالم، وخاصة في مجال النفط باعتباره سلعة عالمية استراتيجية، وكلما تحدث أزمة فإن سعر النفط يرتفع، ويتوفر لدى الدول المنتجة للنفط فائض مالي يزيد أحيانا عن قدرة الاقتصاد المحلي على استيعابه، ويلعب هذا الفائض المالي دورا في التخفيف من أزمة الدول «الغنية». ويقول أحد الباحثين «قد يتصور البعض أن طائرات آسيوية وخليجية ستحوم فوق شارع المال في نيويورك (وول ستريت) لتقذف أطنانا من الدولارات على السوق بهدف تهدئته، وفي الواقع فإن هذا التصور لا يخلو من شيء من الصحة، وهكذا تستفيد الولايات المتحدة من ارتفاع أسعار النفط»، لولا أن طبيعة الأزمات أكبر من ذلك بكثير. وعلى سبيل المثال يقول الباحث نفسه إن حجم الأزمة العقارية التي ضربت أميركا يقدر بـ6,6 تريليون دولار، أي ما يعادل إيرادات النفط السعودية لمدة 55 سنة. وبالتالي فإن قدرة الخليجيين وكذلك الآسيويين على مواجهة الأزمة الأميركية محدودة جدا.

وهكذا تتوالى الأزمات وتتفاعل، ثم تعود وتعكس آثارها سلبا على الجهات التي قد تساعد على التخفيف منها.

إنه عالم مأزوم اقتصاديا. ليس لدى الفقراء، بل لدى الأغنياء فورا.