خيبة بعد خيبة

TT

هذا شيء مزعج حقا ومثبط للهمة والعزيمة. حيثما أتوجه يواجهني الفشل العربي. أتفرج على مباريات الكرة فأجد دولة أفريقية لا تتجاوز نفوسها العشرة أو العشرين مليونا ولم تنَل استقلالها وتصبح دولة إلا قبل أربعين أو خمسين سنة تهزم كل فرق كرة القدم العربية. لاحظت مثل ذلك في سباقات الأولمبياد. جادوا علينا بجائزة نوبل لنجيب محفوظ من باب المداراة وجبر الخواطر. وسمعنا بشأنها شتى الإشاعات. المعمارية زها حديد لم تبرز إلا بعد أن هجرت العراق في مطلع حياتها. لم تحظ جامعاتنا وعلماؤها بأي جائزة عالمية لاكتشاف علمي مهم. ورغم أن تاريخنا في المسرح يمتد للقرن التاسع عشر ودخلت مصر عالم السينما منذ أول نشأتها، قلما لاحظت عملا من أعمالنا في هذه الميادين يسجل أي فتح مشجع. وكذا الأمر في الفنون التشكيلية. وليس لنا أي ذكر في ميدان الفلسفة والفكر المعاصر.

دخلت في هذه الغمامة السوداء الاكتئابية بعد خروجي من مسرح سادلرز ويلز بلندن ومشاهدة فرقة الرقص النيجيرية تقدم الأوبريت الراقص «فلا»، تخليدا لذكرى المناضل الموسيقي فلا كوتي. كانت والدته قد قادت النضال من أجل حقوق الإنسان وبصورة خاصة حقوق المرأة في نيجيريا. وواصل ابنها الموسيقار عملها هذا في عالم الموسيقى الذي مزج فيه موسيقى الجاز بالأنغام الفولكلورية الأفريقية، محملة بأفكار التحرر والديمقراطية. قلما رأيت الرقص والغناء والموسيقى تقدم أفكارا سياسية احتجاجية ثائرة وساخرة بالشكل الذي قدمته هذه الفرقة. وأعطى المخرج عمله أبعادا لعموم القارة الأفريقية، ورأينا منها السخرية من القذافي وكل هؤلاء الطغاة الذين أمسكوا برقاب الناس في أفريقيا.

قدمت الفرقة عملها أولا على المسرح الوطني في لندن. وبعد النجاح المثير الذي حققته تلاقفتها مسارح برودوي في نيويورك. وبعد الموسم الناجح في أميركا عادت إلى لندن لتقدم عملها على مسرح سادلرز ويلز لشهرين مكتظين بالمشاهدين الذين لم يتمالكوا غير أن يصفقوا وقوفا لتحية الفرقة.

بدأ الأوبريت برقص جنسي مثير مما نتوقعه من الراقصات الأفريقيات، وكله مصحوب بموسيقى الجاز والطبول الأفريقية، واستعرضت تاريخ نيجيريا منذ الاحتلال البريطاني بصور ظريفة ساخرة تدغدغ المشاعر. ولكن ما فتئنا أن وجدنا أنفسنا في غمامة كئيبة عما انتهى إليه الاستقلال من إرهاب وفساد وحروب أهلية. قلت لنفسي كيف سيستطيع المخرج أن ينهي الأوبريت الطروب بعد أن جرّنا من الرقص الجنسي المرح وزجنا بهذا المستنقع الكالح الممتلئ بالتوابيت والضحايا؟ وهنا تجلت عبقريته عندما أفلح في جرّنا أخيرا لمشاركته بأناشيد الخلاص والنضال التحرري «كيكا كا كا» فهز أفئدتنا في مقاعدنا ونحن ننشد معه.

خرجت من القاعة وأنا أتساءل. لماذا لا تستطيع كل فرقنا الموسيقية ومعاهدنا الفنية في 24 دولة عربية و400 مليون مواطن أن تخرج عملا بهذا المستوى العالمي؟ لم أتمالك في حسرتي غير أن أردد قول الرصافي:

أأرضُ الهندِ أحسنُ مِن بلادي

وأحسنُ مِن بني قَوْمي الهنودُ؟