أحلام الأسد وكوابيسه

TT

حسب ما نشرته صحيفة «البايس» الإسبانية الرئيسية فإن رئيس الوزراء الإسباني «لويس ثاباتيرو» أرسل في يوليو (تموز) «سرا» مستشاره الخاص «بيرناردينو ليون» ليقترح على الرئيس السوري بشار الأسد خطة للخروج من الأزمة.

وقالت إن ليون «ذهب إلى سوريا متخفيا» لعرض المقترح الإسباني لحل المشكلة في سوريا، عطفا على التاريخ الودي بين سوريا وإسبانيا. اقترح ليون 3 نقاط؛ وهي الوقف الفوري لعمليات القمع، وعقد مؤتمر وطني في مدريد تحضره أطراف النزاع السورية، وتحديد جدول زمني للانتقال وتشكيل حكومة جديدة تضم أعضاء من المعارضة. إلا أن الاقتراح قوبل برفض سوري شديد، وقال ليون عند عودته «أشعر أن الأسد لن يتنازل عن أي شيء أساسي»، مضيفا «إن الأشخاص الذين حاورتهم كانوا بعيدين جدا عن الواقع»، حسب ما نقلت الصحيفة عن دبلوماسي رفض الكشف عن اسمه.

هنا مربط الفرس، فرغم أن الإسبان كانوا حريصين جدا على سرية زيارة مبعوثهم من أجل عدم إحراج «كبرياء» السلطة في سوريا، وعدم حملها على المكابرة، من أجل حماية «البرستيج» وهيبة السلطة، ورغم سعيهم لتوفير «ممر آمن» للخروج، كما كان البعض يطالب بذلك لمبارك في مصر، فإن الكلمات الموحية والمعبرة التي نقلتها الصحيفة عن المبعوث الإسباني توقفنا فعلا على جوهر المشكلة وهو: المكابرة وإنكار الواقع، فالأسد «بعيد جدا عن الواقع» ولن يتنازل عن أي شيء.

نفس ردة الفعل هذه كانت لدى صدام حسين حينما عرض عليه الشيخ زايد بن سلطان، رئيس دولة الإمارات، أن يخرج من السلطة بعد حملة أميركا عليه إثر تفجيرات 11 سبتمبر (أيلول)، إلا أنه سخر وكابر، وساعده على ذلك سوء الأداء السياسي للجامعة العربية وأمينها العام، وانتهى المطاف بصدام حسين إلى الفرار بعد الهزيمة ثم القبض عليه بشكل مهين ثم إعدامه من قبل الأحزاب التابعة لإيران بشكل طقسي غرائزي، فكانت كل خطوة يفعلها ليست إلا حرفا في أبجدية العنجهية وإنكار الواقع.

ومثل صدام حسين كان القذافي في ليبيا الذي لا يرى في كل ما يجري حوله في ليبيا إلا غزوة صليبية يساندها بضعة كلاب ضالة وجرذان. وهو ليس رئيسا للدولة الليبية، عفوا الجماهيرية، فعن ماذا يرحل؟ وماذا يترك؟!

بدرجة أقل أيضا كان مبارك منفصلا عن طبيعة الأزمة التي عصفت به في الشارع المصري، لم يدرك بالضبط ماذا يجري حوله، وقرر أن يضع الأزمة بدرجة مقبولة لديه من الخطورة، في حين أن الأزمة كانت أخطر وأعمق بكثير مما يتخيل.

لكن الأبرز في مسلسل الإنكار والمخادعة هو نظام بشار الأسد، فقد رأى العالم كله - بما فيه الأنظمة التي بذلت المساعدة لهذا الديكتاتور الشاب لتجنيبه المصير الصعب - أن الأسد هو الوحيد الذي قرر أن يخاطب نفسه ويلقي المحاضرات عليها، وينسج الرواية التي يريد ثم يعتقد أن العالم كله مقتنع بروايته هو!

الكذب على الذات والاستمرار في هذا الكذب، سلوك نفسي دفاعي معتاد للإنسان عند حصول أمور لا يرغب فيها أو تخيفه، ولكنه إجراء مؤقت سرعان ما يذوب تحت شمس الواقع، وقد لخص شاعر العربية الأعمق، أبو الطيب المتنبي هذا المعنى حينما أراد إنكار خبر وفاة عزيز عليه، فقال: طوى الجزيرة حتى جاءني خبر

فزعت فيه بآمالي إلى الكذب

فلما لم يدع لي صدقه أملا

شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي

إنكار المتنبي للحقيقة باللجوء إلى الكذب على الذات، في حالته هو، ليس ضارا، أولا: لأنه يخص صاحبه فقط، فهو ضرر فردي لا يتعلق بمصائر غيره من جموع الناس، هو حرية فردية للإنسان بهذا المعنى، رغم أنه لا يفيد صاحبه، إلا أن ما يشفع له أنه محصور به كما قلنا، وثانيا: لأنه كذب سريع التبخر والانكشاف ومقيد بحرارة الألم وصدمة الخبر، وفي اللحظة التي تبرد فيها جمرة الخبر تذهب الكذبة في رياح النسيان، وهو قد قال:

فلما لم يدع لي صدقه أملا

شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي

أما في حالة إنكار الزعماء والرؤساء للواقع الذي يحيط بحكمهم فإن النتيجة تكون كارثية ومأساة عامة وليست مجرد إجراء نفسي فردي، وهذا بالضبط ما يفعله الآن بشار الأسد ونظامه في سوريا، عبر تجهيل العالم كله واستغفاله، والإصرار على تحويل الغضب الشعبي كله إلى مجرد عصابات واستبعاد الدوافع السياسية ومطلب الحرية.

يراهن أمثال هؤلاء الحكام على صحة رهاناتهم وأن يقتنع العالم في النهاية بصحة رواياتهم، وأن تتحقق أحلامهم التي يرسمونها، وأن يكون مجرد ما يرونه أمامهم أضغاث أحلام تذهب بعد قليل من فتح العينين وإشراق النهار.

وحتى نتخيل مصيبة هذا السيناريو، تخيلوا معي لو أن النظام السوري حصل له ما يشتهي كما يريد، وعاد الشعب السوري إلى بيت الطاعة خانعا يتقبل كل ما يفعله به النظام الأمني السوري وزعران الشبيحة، وهو ما كان يفعله أصلا، وعاد السفراء الخليجيون المبعدون، وألان له الأميركيون الكلام ومثلهم الأوروبيون، والعالم كله، المهم أن يغمض النظام عينه ويفتحها، وكأن شيئا لم يحدث، تخيلوا هذا السيناريو فقط - وهو طبعا في نظري سيناريو من شبه المستحيلات - فسيعود شر هذا النظام مضاعفا، وستحركه غريزة الانتقام، وسيقرر أنه لا تسامح بعد اليوم، سيكون شيئا يشبه سيناريو: أمير الانتقام، وسيكون في حل من الانخراط السافر والفخور والنشط في التحالف العضوي مع المخطط الإيراني الخميني في المنطقة، والهدف طبعا، بالدرجة الأولى سيكون تجمع دول الخليج التي يرى نظام الأسد ومعه إيران طبعا، أنه العدو الأول لهذا المحور الغريب.

باختصار، إن سقط النظام بثورة شعبية فهذا يعني أزمة فوضى، ربما، ولكنها أزمة أهون بكثير من تحول الطوق الحربي الطائفي السياسي الإيراني إلى طوق محكم على الجزيرة العربية ودول الخليج؛ من الشمال بعراق نوري المالكي ومقتدى الصدر وبنظام بشار الأسد وشبيحة ماهر ورفاقه من ضباط الحرس الثوري وقاسم سليماني وحزب الله الإيراني في لبنان، ومن الجنوب ربما تتحرك الورقة الحوثية وتنشط على الجبال اليمنية المطلة على الحد الجنوبي السعودي، ومن الشرق هناك جمرة البحرين، فأي صورة أسوأ من هذه الصورة، وأي كابوس مزعج أقبح من هذا الكابوس؟!

بين أحلام الأسد بالنجاة، وأوهامه بالكذب على الناس والعالم، وبين كابوس «الأنشوطة» التي ستلف على عنق الدول الخليجية في حالة اكتمال الطوق الإيراني السياسي الطائفي على دول المنطقة، نحن نعيش بين الحلم والكابوس والواقع.

لكن نحن ما زلنا في عالم الواقع، وبيدنا عناصر قوة كثيرة، فلنرسم نحن واقعنا قبل أن يرسمنا الآخرون، أما التردد والانتظار، فضريبته أفدح من ضريبة الإقدام والمبادرة، يجب أن نرسم نحن مصيرنا ولا ونكتفي بأن نكون ملعبا للآخرين ولسنا لاعبين!

[email protected]