العزوف عن الانتخابات

TT

يعيش المشهد السياسي التونسي هذه الأيام نوعا من الارتباك والخيبة إزاء موقف التونسيين الفاتر بالنسبة إلى التسجيل للمشاركة في انتخابات المجلس التأسيسي المقرر عقدها يوم 23 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل. ومرد هذا الإرباك أن الحماسة التي أظهرها الشعب التونسي في ثورته يوم 14 يناير (كانون الثاني) الماضي ثم إصراره على المشاركة السياسية وفرض موقفه من بعض الخيارات والأشخاص، كل هذا وغيره شكل حافزا لتبني فرضية تطليق الشعب التونسي لمرحلة العزوف عن الشأن العام وعزمه ممارسة حقوقه السياسية كاملة.

غير أن آخر الأرقام تقول إن 16 % فقط من مجموع سبعة ملايين ناخب سجلوا أسماءهم في مكاتب دوائر انتخابات المجلس التأسيسي، وهو ما جعل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات تقرر التمديد في آجال التسجيل من 2 إلى 14 أغسطس (آب) الحالي.

والسؤال الذي يفرض نفسه أمام هذا الموقف هو كيف يمكننا أن نفهم ومن ثمة نفسر نسبة الإقبال الضعيفة على التسجيل في انتخابات من المفروض أنها الطريقة المثلى لتحقيق المشروعية؟

يكمن الإشكال الرئيسي في أنه لا بد أن يبلغ عدد الناخبين 6 أو 7 ملايين ناخب حتى تحظى انتخابات المجلس التأسيسي بالمشروعية الشعبية اللازمة، والحال أننا لم نتعد سوى المليونين بقليل، أي ثلث الحد المتوسط المطلوب. لذلك فإن الأيام التي تفصلنا عن تاريخ 14 أغسطس الحالي تعد حاسمة ومصيرية، وهي التي ستحدد للنخب السياسية في تونس حقيقة موقف التونسيين من هذه الانتخابات، وما إذا كانت أغلبية الشعب التونسي ترفضها أو أن ظاهرة العزوف هي بدورها مرآة تكشف عن جملة مواقف الشعب من الحكومة المؤقتة والهيئة العليا للإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي والأحزاب السياسية ومختلف مكونات الحياة السياسية الجديدة في تونس اليوم.

ومن الاستنتاجات التي يمكن تبنيها أن مكونات الحياة السياسية من حكومة وأحزاب وهيئات لم تنجح في جعل التونسيين يبقون على نفس الحماسة والإقبال على الشأن العام بل إنهم أسهموا في بعث حالة من التوجس ضدهم.

وإذا كانت الحكومة لم تستطع، رغم بعض الخطوات، إشباع الحد الأدنى من توقعات الشعب التونسي، خصوصا الفئات المهمشة التي قامت بالثورة، فإن الفشل الأكبر تتحمل مسؤوليته الهيئة العليا للإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي وكذلك الأحزاب. فلم تتحل هذه الهيئة بالنضج الكافي، وهو ما كشفت عنه عمليات التراشق والغرق في خلافات شخصية بين أعضاء الهيئة ورئيسها، ناهيك عن سلسلة الاستقالات والانشقاقات التي تعكس مراهقة سياسية.

كما أن الأحزاب التي بلغ عددها قرابة المائة بانت البارزة منها فاقدة للكاريزما وللقدرة على التنظيم منشغلة عن تنمية قدراتها الذاتية بالبحث عن التمويل دون إيلاء البرنامج السياسي وأدوات تبليغه الأهمية اللازمة.

ولعل أحداث العنف التي عرفتها بعض المناطق في تونس تمثل في حد ذاتها رسالة من أهم بنودها أن الوضع ليس كما يجب أن يكون حتى ولو كنا في مرحلة انتقال ديمقراطي موسومة بطبيعتها بالمد والجزر والتجاذبات وغير ذلك. فلو تمكنت الأطراف المكونة للحياة السياسية والمحركة للفعل والقرار السياسيين من بناء علاقة مع الشعب قوامها الثقة القوية لما كانت نسبة الإقبال على مكاتب التسجيل لانتخابات المجلس التأسيس محبطة إلى هذا الحد، اللهم إذا قرر الشعب التونسي عدم تفويت ممارسة حقه الانتخابي واختيار ممثليه وقول كلمته بكل حرية لأول مرة في تاريخه.

أما إذا لزم التونسيون العزوف ولم نصل إلى ستة ملايين ناخب على الأقل فإن ذلك يعني أنه لا فرق بين الحكومة المؤقتة حاليا والمجلس التأسيسي القادم من حيث ضعف المشروعية. إضافة إلى نقطة أخرى نراها مهمة، وهي أن المشروعية التوافقية التي يتحدث عنها الكثير على امتداد الأشهر السابقة لا تعدو أكثر من شعار أثبتت الممارسة عدم صدقه، بدليل أنه لو كان هناك الحد الأدنى من التوافق، لما رأينا فصولا مؤسفة من الانشقاقات والتراشق الشخصي والسياسي.

إذن الشعب التونسي حاليا بين خيارين: إما تدارك الأمر وبلوغ نسبة 50 في المائة من الناخبين حتى لا تجرى انتخابات المجلس التأسيسي وهي فاقدة للمشروعية مسبقا. وإما الاتجاه نحو الاستفتاء على مشروع دستور جديد.