الثورات العربية وآفة استقطاب الإسلاميين والعلمانيين

TT

تشهد الساحة السياسية العربية، وتحديدا في البلدان العربية التي استكملت الحلقة الأولى من ثوراتها، كما هو حال تونس ومصر، سجالية آيديولوجية واسعة النطاق، وهي سجالية تكاد تتركز حول هوية الدولة القادمة والخيارات التشريعية وعلاقة الدين بالدولة وبالشأن السياسي عامة، وقد اتخذ هذا الاستقطاب الآيديولوجي عناوين ومداخل كثيرة ومتنوعة. في تونس تكثف الاصطفاف حول موعد انتخاب المجلس التأسيسي، المفترض فيه أن يضع دستورا جديدا للبلاد ويحدد مرتكزات النظام السياسي في مرحلة ما بعد الثورة، ومن قبل ذلك حول ما سمي بالميثاق الجمهوري، والقانون الانتخابي، وقانون الأحزاب وغيره، وأخيرا وليس آخرا التنازع حول شرعية الهيئة العليا لحماية الثورة نفسها. وبينما أصر الإسلاميون وأحزاب سياسية أخرى معهم على ضرورة إجراء الانتخابات في مواقيتها والتعجيل بتأسيس مرتكزات شرعية ما بعد الثورة، قابلتهم القوى اليسارية والليبرالية من داخل الهيئة العليا لحماية الثورة والإصلاح السياسي وخارجها، بالتشبث بالتأجيل لاعتبارات فنية ولوجستية على ما قال رئيس الهيئة عياض بن عاشور قبل أن تنتهي الأمور إلى إقرار موعد وفاقي جديد أواخر شهر أكتوبر (تشرين الأول) من السنة الحالية. أما في مصر التي تبدو فيها مسألة الهوية أكثر استقرارا من تونس الخاضعة لكثافة التأثير الثقافي والسياسي الفرنسي، فقد تموضع التجاذب الإسلامي العلماني حول الإصلاحات الدستورية ونوعية الانتخابات المفترض تنظيمها وما إذا كانت تشريعية أولا أم رئاسية أم هيئة تأسيسية دستورية. في الوقت الذي شدد الإسلاميون على ضرورة الالتزام بمقتضيات الاستفتاء الشعبي على التعديلات الدستورية الجزئية والتي قضت بإجراء انتخابات تشريعية ثم رئاسية وفق البرنامج المعلن من طرف المجلس العسكري الذي يدير شؤون البلاد، قابلتهم جل القوى اليسارية والليبرالية مطالبة بالذهاب إلى انتخاب هيئة تأسيسية أولا، ومنها انتخابات رئاسية فتشريعية.

من الواضح هنا أن دائرة الاختلاف متعددة الصور والأشكال إلا أنها تكاد تتجمع في مسائل ذات صلة بالمرجعية العامة وهوية الدولة والتوجهات التشريعية وغيرها. في تونس ثمة مجموعات صغيرة ولكنها مرتفعة الصوت طالبت بإلغاء الفصل الأول من الدستور التونسي الذي ينص على أن تونس دولة جمهورية لغتها العربية ودينها الإسلام، وهناك من ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، إلى المطالبة بالتنصيص على مبدأ لائكية الدولة، والمجاهرة بالفصل بين الدين والدولة والسياسة عامة. أما في مصر وحيث تبدو المرجعية الإسلامية أكثر وضوحا وإفصاحا من أختها التونسية، فهناك تجاذب واضح بين من يدفع باتجاه المزيد من أسلمة الدولة على مستوى التشريعات والوظائف، ومن يريد التخفيف مما يراه حضورا فاقعا للمرجعية الإسلامية في الدستور المصري.

ليس ثمة شك في أن هنالك إرادة خفية وظاهرة تدفع الأمور دفعا سواء في تونس أو مصر باتجاه تفجير الصراعات الآيديولوجية والثقافية. فبدل أن تجري الأمور على قاعدة التناقض بين القوى المناصرة لمطالب الثورة وتطلعاتها في الحرية والكرامة والعدالة تنعطف مواقع الصراع إلى ثنائية إسلامي علماني، أو حداثي أصولي. كلنا يعرف أن نظامي بن علي ومبارك قد عملا على استغلال مقولة الخطر الأصولي حتى العظم، إلى الحد الذي أضحت فيه هذه المقولة أهم رأسمال لهما لاستدرار الدعم الغربي وتحصين نفسيهما من انتقادات المنظمات الحقوقية التي لم تتوقف، بيد أنه لم يعد من المقبول اليوم التمادي في هذه اللعبة المكلفة وكأن شيئا لم يقع في الساحة العربية الملتهبة اليوم.

من المؤكد أن هذه المنازلات الآيديولوجية الساخنة التي تدور رحاها في الساحة السياسية لا تخلو من اختزال وتضليل متعمد وغير متعمد، ومن ذلك عدم تحديد المشكلات بصورة دقيقة، بما يساعد على تلمس مسالك الإجابات السليمة والمناسبة. فلا أحد يستطيع الجزم بأن مشكلة الدولة العربية تعود إلى خضوعها للإملاءات الدينية وسلطة العلماء والمشايخ المعممين، بقدر ما تعود إلى استحواذ الدولة على الدين والدنيا، واستئثارها بالمصالح المادية والمنابع الرمزية على السواء، ثم في تحويل مؤسسات الدين ورجاله إلى مجرد ترس صغير في بيروقراطية الدولة الضخمة. من هنا يكون المطلب الأصح والأكثر إيفاء بالتعبير عن الواقع العربي الراهن هو مطلب استقلالية الدين ومؤسساته عن الدولة باعتباره جزءا مكينا من حركة المجتمع الأهلي المدني وليس فصل الدولة عن الدين، التي هي من أصلها منفصلة ومتخارجة عن كل شيء، عدا منطقها الإكراهي والتعسفي الخاص بها.

ليس سرا القول إن هنالك مخاوف وهواجس كثيرة بين الإسلاميين وقطاعات من الليبراليين واليساريين أو ما يسمى تجاوزا بالعلمانيين، والحقيقة أنه لا توجد حلول سحرية لهذه المشكلات والمخاوف التي يبدو بعضها موروثا لسنين طوال، وبعضها الآخر ناشئا عن الأجواء التي صاحبت الثورات العربية، هي في أمس الحاجة اليوم إلى تجنب الخيارات القاطعة وتغليب روح الوفاق والشراكة بدل المعادلات الصفرية المكلفة للجميع، ومن ذلك:

أولا: صياغة عقد معنوي عام، تلتزم بموجبه مختلف الأطراف بالاحتكام إلى قواعد المنافسة السياسية الشريفة ومبدأ التداول السلمي على السلطة وفق الآليات الديمقراطية المعروفة من دون زيادة أو نقصان، وأقول عقدا معنويا يقوم على التواصل الحواري الهادئ، وليس إلى نص مكتوب يحل محل الدساتير أو غيرها من المواثيق المدونة. وهنا يهمنا أن نذكر بما كنت قد سميته في كتابي «في العلمانية والدين والديمقراطية» بالبعد الإجرائي للديمقراطية، أعني بذلك أن الديمقراطية ليست عقيدة دهرية ولا دينا منافسا للأديان، بل هي جملة من الأدوات والآليات الإجرائية لتنظيم الشأن السياسي وعقلنة الصراع على السلطة، وذلك من خلال الاستعاضة عن آليات الغلبة وسحق الخصم بوسائل المنافسة وحشد الأصوات، إذ هي تحول العدو المفترض إلى مجرد خصم سياسي يمكن مواجهته بالمناظرة الحجاجية وحشد الأصوات على ما تقول المفكرة البلجيكية شنتال موف. إن ما يشهد على صلابة الديمقراطية ليس الادعاءات النظرية الكبرى التي يرددها بعض الليبراليين الجوهريين من القدامى والمحدثين، من قبيل كونها علامة على الخصوصية الثقافية الغربية التي تعود جذورها إلى ما سمي بديمقراطية أثينا أو ما سمي بالمعجزة اليونانية، أو حتى إلى تلك المقولة التي طارت بين المثقفين العرب حول ما يسمى بالثقافة الديمقراطية، بقدر ما يعود هذا النجاح إلى ما أثبتته عمليا من نجاعة في إدارة الشأن السياسي، وقدرة على امتصاص التوترات والأزمات، مقارنة بالمنظومات الشمولية التي حكمت عصرنا الحديث. من المؤكد أن الديمقراطية ليست بالعصا السحرية التي تحل كل المشكلات المتراكمة لعقود طويلة ولكنها بكل تأكيد، ونظرا لما تتيحه من فضاءات تداول حواري عام وميل نحو الانفتاح واستيعاب سائر الطاقات، فإنها تساعد قطعا على معالجة المشكلات، أو في الحد الأدنى التخفيف من وطأتها، وعليه فمن المهم في هذه المرحلة الابتعاد عن السجاليات الآيديولوجية، والاتفاق بدلا من ذلك على الآليات العامة ثم الالتزام بروح الوفاق والتسويات العامة بدل الركون إلى لعبة المنافسة الحادة.

نحن العرب في أمس الحاجة اليوم إلى إعادة الاعتبار لثقافة التسويات والمساومات والابتعاد ما أمكن عن الخيارات الجذرية القاطعة، بما من شأنه أن يوفر فرصة لإعادة التوازن والاستقرار أمام مجتمعاتنا التي تعاني من توترات واضطرابات كثيرة، وهذا فعلا يقتضي وجود نخب جديدة تميل نحو التوسط والميل إلى تجنب الحلول الصفرية.

ثانيا: إبعاد الدولة عن الخيارات العقدية الكبرى سواء باتجاه العلمنة أو الأسلمة، مع الالتزام باحترام دين أو أديان المجتمع وحماية اللغة أو اللغات الوطنية المعتمدة وإنزالها المكانة التي تستحقها في مجالات التعليم والثقافة والاستخدام العام، على نحو ما هو منصوص عليه في أغلب الدساتير العربية تقريبا. إن من أوكد مسؤوليات الدولة خدمة الخير العام وحماية السلم المدني وليس فرض أنماط معينة في الذوق أو المأكل والملبس. لقد بينت التجربة العملية أن أسوأ أنواع الدول هي تلك التي تنحو منحى تدخليا لفرض أجندتها الآيديولوجية والعقائدية سواء باسم الدين والمقدسات أو باسم العلمانية والتحديث، ومساوئ الطلبانية في أفغانستان والأتاتوركية في تركيا ليست عنا ببعيدة.

ربما يحتاج العالم العربي الذي يمر بزلزلة عامة إلى ضرب من الليبرالية السياسية المعتدلة، ليبرالية تقوم على احترام ثقافة المجتمع، وإتاحة فرصة الحوار والتطور الفكري والسياسي أمام الجميع من غير إكراه أو استثناء، حتى تستعيد مجتمعاتنا قدرا من توازنها المفقود وتنطلق ديناميكياتها الداخلية المعطلة لعقود طويلة بفعل القمع وسطو النخب العسكرية والبوليسية الجاهلة والجهولة.

إن من أكثر الآفات التي نعانيها في الرقعة العربية الواسعة، وجود ثقافة استبعادية وإقصائية تعشش بين النخب بشقيها العلماني والإسلامي على السواء، إذ ثمة مجموعات لا ترى في فتح مجالات الحرية والتضييق على الناس سوى تطاول على الدين والمقدسات ولا ترى الإسلام إلا قرين القيود والأصفاد، ولكنني رأيت على الجهة الأخرى مجموعات علمانية، شديدة التعصب وضيق الصدر استنادا إلى ادعاءات تنويرية وحداثية مزيفة. ولعل هذا ما يجعل من أوكد الأولويات في المرحلة الراهنة نزع الأحقية في احتكار الدين والحداثة على السواء، فكما أنه ليس من حق أحد ادعاء تمثيل الإسلام أو احتكار النطق باسمه فكذلك هو الأمر ليس من حق أي شخص أو جهة ادعاء احتكار «أيقونات» الحداثة. فالحداثي أو الديمقراطي فعلا ليس من يمنح نفسه تفويضا ذاتيا بكونه حداثيا وديمقراطيا، بل هو الذي يثبت قولا وفعلا أنه مع قيم الحرية ومناهضة كل ألوان الاستبداد والجبروت السياسي. كما أنه لا خير في حداثة إذا تحولت إلى ضرب من الكسل الذهني والروحي عبر ترديد مجموعة من الكليشيهات المستهلكة، ولم تكن تعبيرا عن اليقظة الفكرية واستعدادا لفتح دروب جديدة وغير مسبوقة. قد يكون أدعياء الحداثة والتنوير عندنا هم أشد الحائلين دون اكتسابها. ولست مبالغا أو متجنيا إذا قلت إننا نحن العرب، وخصوصا في الجناح المغاربي، من مخلفات ثقافة لائكية فرنسية ذات نزوع جذري واستبعادي لا يقل خطورة عن النزوعات الاستبعادية الدينية، مثلما نعاني من وجود نخب شديدة التوتر والفوران لا تعرف سبيلا للوفاق والتعايش العام، على كثرة ما تثيره من صخب فكري وآيديولوجي.

ومع ما ذكرناه سابقا فإن تأمل المشهد السياسي العربي على ما يصحبه من سلبيات ومساوئ يشير إلى أن الصورة ليست مظلمة وقاتمة بإطلاق، فقد أضحت السردية الديمقراطية ضاغطة على جميع التيارات سواء بسبب شيوع ثقافة الحرية والكرامة البشرية على نطاق عالمي، أو لكون الثورات العربية قد رفعت من شأن هذه القيم السياسية بشكل غير مسبوق. ولا غرو أن نرى حتى بعض التيارات السلفية، كما هو الحال في الكويت وربما سنرى شيئا من ذلك في مصر، تميل نحو ثقافة المشاركة الديمقراطية بمجرد دخولها الحلبة السياسية وقاعات البرلمانات، فللواقع سلطانه وآثاره التي تفوق الصلابة الآيديولوجية، وعليه يظل التحدي المطروح أولا وأخيرا في توفير أجواء سياسية سليمة تساعد الجميع على النضج وسعة الصدر، أي فتح أبواب الحرية أمام الجميع من دون قيود أو شروط سوى احترام قواعد اللعبة وعدم الانجرار للعنف.