لم تكن إهانة للبنانيين

TT

استاء بعض الأصدقاء والقراء من العبارة التي أوردتها في مقالي السابق، حين وصفت لبنان بأنه «بلد يمتلك عضوية دولية ولكنه بنصف شعب»، وذلك عطفا على موقفه في مجلس الأمن من الأحداث في سوريا. رأى الأصدقاء أن العبارة فيها امتهان للبنانيين وانتقاص من مواطنتهم، وطالبوا باعتذار. وبدوري أنظر لعتابهم بكثير من الاحترام والتقدير، ولكن وجهة نظري مقتبسة من وقائع تاريخية متعددة قد أعجز عن حصرها.

لبنان منقسم بحد السكين إلى شطرين، وهذان الشطران لا يعبر عنهما البرلمان اللبناني فقط، بل نلحظهما في المناطق الجغرافية، وفي المؤسسات الإعلامية، وحتى في الحديث مع إنسان الشارع العادي، وفي كل قضية، عظمت أو صغرت، ينقسم لبنان حولها إلى قسمين واضحين للعيان، وهو حال قلما يحصل مثله حتى في الدول التي يحكمها حزبان سياسيان.

إلغاء النصف الثاني من الشعب اللبناني لم يكن بسبب اختلافه في الرأي مع النصف الأول، فلبنان بلد مشطور منذ كان أرضا لاستعراض قوة وكلاء المعسكر الغربي الرأسمالي من ناحية، والمعسكر الشرقي الشيوعي من ناحية أخرى، في ستينات القرن الماضي، وحتى اليوم حيث صار لبنان جوهرة تاج الهيمنة في الشرق الأوسط. بل السبب أن هذا النصف المنشق مستعد لأن يمارس سياسة الأرض المحروقة على لبنان انقيادا لتوجيه من دولة أخرى، دون أن يكون للبنان الوطن أولوية بأن تتحقق مصلحته أو تنصرف عنه المضرة على المستوى الاقتصادي أو السياسي أو الأمني، وهذا ليس ديدن المواطنة الصالحة.

ربما هذه وجهة نظر قاسية، ولكن اللبنانيين وحدهم من أوصلوا بلدهم لهذا الوضع، وليتخذوا من جيرانهم السوريين قدوة حسنة، حيث ثاروا على أعتى الأنظمة السياسية وتمردوا على أصعب واقع ممكن أن يعيشه إنسان، كما أن درسا مهما يحصل الآن في سوريا، وهو أن النظام هناك لم يتوان عن القيام بمذابح ضد الشعب السوري، وبالتالي لن يحصل أي شعب آخر على مكانة أعلى أو حماية استثنائية أكثر.

كل دول العالم أدانت شراسة النظام السوري في التعامل مع المتظاهرين السوريين، حتى روسيا، التي دائما ما تشاكس وتعاكس، شعر رئيسها بالخجل وتوقف عن الدفاع عن النظام القمعي، ولكن لبنان لم يخجل من الوقوف ضد كل العالم في مجلس الأمن حينما أعلن أن سيادة سوريا فوق كل اعتبار، كأن السيادة صك عبودية بيد الحاكم ضد الناس، ولو كان لطاولة مجلس الأمن أن تعبر عن شعورها لانقلبت في وجه مندوبة لبنان لحظة قراءتها لكلمتها المعيبة.

لبنان أجاز ممارسات النظام السوري الوحشية التي فاقت بمراحل فظاعة ما قامت به إسرائيل ضد الفلسطينيين في كل تاريخها، فإسرائيل التي كانت تحتكر امتياز العدوانية وانتهاك حقوق الإنسان أكثر من ستين عاما فقدته اليوم بعد أن سحب بشار الأسد البساط من تحت قدميها.

لبنان في مجلس الأمن ليس الهند القادمة بقوة اقتصادها وعلومها ودورها السياسي في حفظ توازن وسط آسيا، وليس ألمانيا الظهر الفولاذي للاتحاد الأوروبي، وليس جنوب أفريقيا التي تحللت من العنصرية وأضحت الوجه الذهبي لأفريقيا. لبنان بلد صغير لا طاقة له باتخاذ مواقف حادة ضد الرأي العام العالمي، كان الأجدر أن يستخدم مقعده المؤقت في مجلس الأمن ليظهر نفسه البلد المثقف المتحضر الجذاب كما عرفه العالم قبل أن يتخطفه الأشقياء الذين شوهوا في صيف 2006 وجهه الجميل عندما رموا به في حلبة القتال مع ملاكم «متعضل» يتفوق عليه قوة، وشلوا في 2007 وسط عاصمته التجاري شهورا دون اعتبار لمصالح الناس، وروعوا أهله في 2008 بالسلاح غير المشروع في لحظة غفوة من سلاح الجيش المشروع..

ومرة أخرى وبكل وضوح ظهر انقسام اللبنانيين حول موقف دولتهم، الذي يفترض أن يمثل موقفهم، وخرج الإعلام اللبناني في اليوم التالي منقسما على نفسه؛ فالراضي بالموقف المعلن على طاولة مجلس الأمن متمسك بصحته، والمعترضون قالوا إن هذا الموقف المخزي الذي خذل الثوار السوريين هو تأكيد على أن لبنان بلد لا يملك قراره، أي أنه منقوص السيادة.

بلد بنصف شعب ومنقوص السيادة، ماذا سيحصل للبنان أكثر من ذلك؟

إن من حق القراء الاعتراض على العبارات المذكورة، ولكني لا أعتقد أن من الأهمية التركيز على الاحتجاج على الكلمات عوضا عن قراءتها بموضوعية وإظهار الغضب على من تسبب فيها لا من كتبها.

* كاتبة وأكاديمية سعودية - جامعة الملك سعود