كانت ساكنة قصادي!

TT

بعد ليلة طويلة قضيتها في تفكير ثقيل مددت يدي إلى الراديو ورحت أحرك المؤشر بين المحطات.. ولم يكن الراديو ينطق بكلمة واحدة.. فأنا لم أفتحه، وإنما أردت أن أختار المحطة التي تعجبني دون أن أسمع صوته.. فأنا أحب هذا الراديو لأنه يفكر بصوت مرتفع.. لأنه ينتقل من موضوع إلى موضوع بسهولة.. ولأنه ينتقل من لغة إلى لغة ومن بلد إلى بلد في أي وقت في الليل أو النهار.

أما أنا فمن ثلاثة أيام لا أستطيع أن أنقل رجلي أو يدي، ولا أستطيع أن أنتقل من هذه الفكرة التي استولت على رأسي وأعلنت حالة الطوارئ في كل مشاعري.. فلا أعرف ماذا حدث لي بالضبط.. إنني لم أكد أسمع هذا النبأ حتى ارتبك كل شيء في داخلي.. مع أن هذا النبأ كنت أتوقعه من وقت طويل.

أما الصدفة الغريبة فهي أنني عندما خرجت من البيت كان الصوت يتردد: ساكن قصادي وبحبه.. أيوه ساكن قصادي من 15 سنة.. وكل يوم أشوفها.. كل يوم تقريبا.. رأيتها طفلة صغيرة ورأيتها بالمريلة ورأيتها وهي تركب البسكليت ورأيتها وهي تركب السيارة إلى جوار شاب طويل عريض منذ شهر واحد.. وعرفت فيما بعد أن هذا الشاب هو الذي أصبح اليوم خطيبها.. أيوه خطيبها.. ولا أعرف كيف استطعت أن أنطق بكلمة خطيبها بهذه السهولة.. إنها المرة الأولى التي تخرج من فمي هذه الكلمة، ولا بد أنها تنطق هذه الكلمة بسهولة ومتعة فتقول: إن هذا الفستان يعجب خطيبي.. وهذا اللون يعجب خطيبي.. وتقول: خطيبي قال كده.. وخطيبي من رأيه كده.. خطيبها خطيبها.. ألف مرة في النهار وألف مرة بالليل.

والحقيقة أنا مندهش جدا من هذا الذي حدث لي فجأة ومن دون مقدمات.. فهل معقول يا ناس أن واحدا مثلي يحب فتاة من أول نظرة.. وحتى مش من أول نظرة بل من مليون نظرة؟! ولكن الحق أنا لم أرها بوضوح إلا هذه المرة الأخيرة، لقد رأيتها بعقلي وبوحدتي وبمرارة الحياة التي أعانيها.. فقد تغير كل شيء في الدنيا بعد وفاة والدتي.. الدنيا «عزلت».. الدنيا فضيت.. الدنيا زي ما يكون انفتحت فيها فتحة ومن الفتحة نزل كل شيء.. زي ما يكون الميه انقطعت وأنت تستحم في بانيو تسبح فوقه أوراق الورد والصابون لا يزال على وجهك.. زي ما تكون والدتي أخذت معها عمري فرجعت إلى طفولتي صغيرا عاجزا في حاجة إلى حنان أمي من جديد.. زي ما تكون من أصحاب الملايين وفجأة وجدت أن الأموال التي معي كلها زائفة.

حتى الكلام نسيته لم أعد أذكر إلا كلمة واحدة.. الضياع.. وكلمات أخرى مأخوذة من هذه الكلمة.. ضاع.. فأنا ضائع!