محمود درويش ليس نبيا

TT

أين المشكلة في أن يكون محمود درويش رمزا فلسطينيا كبيرا، وشاعرا جليلا ويحب النساء حبا جما أيضا؟ وأين تكمن المأساة في أن يبين مسلسل «في حضرة الغياب» هذا الجانب من شخصية درويش، علما بأنه يظهره بأدب شديد، ورومانسية فائضة، لا بل ومبالغ فيها. محمود درويش كان شاعر الثورة، لكنه رجل وإنسي، لم تدم زيجتاه الاثنتان معا سوى خمس سنوات، بقي بعدهما، كما كان قبلهما، عازبا يبحث عن حبيبة، دون أن يخفي نفسه ذلك. ولو قرأت كتابه «في حضرة الغياب» لوجدت أن فيه ما يفوق المسلسل بكثير. وقد قال هو نفسه ذات يوم «أحب أن أقع في الحب وحين ينتهي أدرك أنه لم يكن حبا». ويعيد حالة التأرجح العاطفي التي كان يعيشها - خالطا المزاح بالجد - إلى أن مولده كان تحت تأثير برج الحوت.

الهجوم على المسلسل، ترافق مع اعتصامات وتهديدات بالمقاضاة، ومحاولة لوقف عرض العمل، هذا غير الشتائم والإهانات.

نعترف أن المسلسل بارد وبليد، يفتقر للحيوية، وحواراته بطيئه كما أن أداء الممثل فراس إبراهيم لم يرتق للمستوى المطلوب، ربما تحديدا بسبب تلك الرغبة القاتلة، في إظهار الشاعر الكبير، كما الأنبياء الصالحين، لإرضاء جمهوره الكريم. الجانب الفني هذا يحتاج نقدا تقنيا جادا وليس هجوما شخصيا على أصحاب العمل أو دفاعا تعصبيا قبليا عن درويش. من اجتهد وأصاب له أجران، ومن أخطأ له أجر واحد. ومن لا يعجبه المسلسل، فليتفضل ويقم ببحث جاد عن حياة الشاعر - الرمز، ما دامت الغالبية الساحقة ممن عاصروه لا تزال على قيد الحياة، وليبدأ بالتحضير لمسلسل جديد أو فيلم يليق بشاعر الثورة. فدرويش يستحق مسلسلات عديدة، وحياته غنية وتتمفصل مع قضية العرب الكبرى، ومسلسل واحد بالفعل لا يكفي، ولا يفي.

لا تزال مشكلة السير الذاتية المكتوبة، والمؤداة في تمثيليات وأفلام تواجه المعضلة ذاتها في العالم العربي. الكل يريد أن يظهر ملائكيا، طهرانيا، منزها، بلا عيوب أو مثالب، وهو ما لا يمكن أن ينتج فنا صادقا ومؤثرا في الجمهور الذي يملك بوصلة تكشف الزيف وتأباه.

فيروز أقامت الدنيا ولم تقعدها، عندما عرفت أن مسلسل «الشحرورة» سيظهرها وزوجها عاصي - ولو بمشاهد محدودة وباسمين مزيفين - لمجرد أن عاصي كان قد أحب صباح يوما وطلب يدها للزواج. هذا النوع من الحسابات الشخصية الضيقة، لا وظيفة له سوى نحر الفنون. الأدب كما السينما ومثلهما الإبداعات الأخرى، تحتاج جرأة صادمة في الطرح، وقوة في التعبير، وحرية عارمة تسمح للمبدع بتحريك مخيلته في كل الاتجاهات. تقييد الفنانين على النحو الذي نراه، ومحاسبتهم على «فيس بوك» و«تويتر» وفي الساحات، بنفس الطريقة التي يجابه بها الطغاة من السياسيين الذين جوعوا الشعوب واغتالوها، هو أسوأ ما يمكن أن تنتجه الثورات العربية النزاعة إلى الحرية.

ثمة صفحة على «فيس بوك» عنوانها «معا لإيقاف عرض المسلسل التافه: في حضرة الغياب»، وأخرى «معا لمقاطعة كل المسلسلات السورية في رمضان»، لمجرد أنها تضم بعضا ممن عادوا الثورة. بعض النبهاء، اعترضوا على الحملة، وكتبت إحداهن مستهجنة ومحذرة: «أخشى أن تتم الدعوة لمقاطعة الفن التشكيلي السوري.. ثم الأدب السوري.. والتراث السوري.. ثم الهواء السوري والماء السوري.. وووو.... رفقا بسوريا والسوريين!»

المحزن أن صفحات مقاطعة المسلسلات العربية، تجاوزت بكثير، في الأيام العشرة الأولى من رمضان، صفحات مقاطعة إسرائيل نشاطا وحيوية. وبدا أن إظهار محمود درويش بصورة معينة لا تعجب هذا المشاهد أو ذاك، أشد وطأة على المتفرجين من أن تسرح وتمرح الطائرات الإسرائيلية في سماء أجوائهم الوطنية.

تلام مسلسلات السيرة الذاتية لأنها لا تزال تحتاج إلى جهد أكبر من الناحية التوثيقية، وتركز على الجانب السطحي من الشخصية، دون أن تتوغل بما يكفي في الأعماق الذاتية، لكن للأسف، ليس هذا بالضرورة ما يغضب الجمهور. فثمة من يعتقد أننا «نحتاج إلى 20 أو 30 عاما كي يمكننا تجسيد شخصية فريدة مثل درويش، لأنه يبقى شيئا خرافيا، إنه أكثر من مجرد إنسان ومثقف وأكثر من مجرد شاعر.. إنه استثناء يصعب تكراره، إلا إذا شاء الله تعالى» يقول أحد المعترضين. وهو ما يدلل على أن الذهنية العربية التي يفترض أنها تطلب الحرية، هذه الأيام، لتعتق ذاتها من رق التعظيم والتبجيل والتأليه لبني البشر، لا تزال أسيرة رموزها، الذين تعتقد أنهم أكبر من أن يجَسدوا أو ينتَقدوا أو حتى يستحضَروا.

وبالتالي ستبقى المعركة ضد السير الذاتية (كتابة وتمثيلا) شرسة وعدوانية، حتى يصبح الإنسان العربي حرا بالفعل لا بالشعارات الرنانة. والسؤال الكبير والخطير: كم من السنوات نحتاج، كي نتأكد أن الدماء التي تسفك على مذبح التحرر لن تذهب هدرا، وأنها ستصب في مجراها الذي يغذي نهر الخلاص الحقيقي؟