ثم جاء عم سيد!

TT

اكتشفت لأول مرة أنني أستطيع أن أعمل أي شيء، فليس لأي شيء أي معني.. فإذا ظللت في الفراش ساعة أو عشرين ساعة فلن يدق بابي أحد.. فلن يسألني أحد لماذا أنا نائم.. وإذا أنا صرخت مثلا بأعلى صوتي فلن يقول لي أحد ماذا فعلت.. وإذا فتحت باب غرفتي فلن أسمع: صباح الخير يا حبيبي.. التي أجدها ضاحكة على وجه أمي.. تصور إنني أسمع هذه العبارة لمدة 30 سنة متوالية دون أن تتعب أمي في تكرارها.. صحيح أن الأم هي الإنسان الوحيد الذي لا يتعب من الحب.. انتهى كل هذا.. والآن بدأت المرحلة التي نشتري فيها الحب.. نهضت من الفراش وأنا لا أعرف بالضبط ماذا عساي أن أفعل، فهذه هي المرة الأولى التي أجدني فيها أمام نفسي وجها لوجه.. وكنت أقول لنفسي: هل معقول أن تطلع الشمس في مثل هذا اليوم.. هل معقول أن تطلع الشمس غدا إذا فاتها أن تطلع اليوم.. وكنت أقول لنفسي: لا أعتقد ذلك.. هل معقول ألا يشعر أحد بهذه الكارثة التي حدثت لي.

وأذكر أنه حدث وأنا غارق في دموعي وآلامي أن سمعت طرقا على الباب وتخيلت أنها لا بد أن تكون أمي، فأنا لم أتعود منها أن تبيت ليلة خارج البيت.

ومن دون أن أدري اتجهت إلى الباب وفتحته وكان هو بائع اللبن.. وصافحني بحرارة وطلب مني أن أتجلد وأن أتماسك؛ فأنا رجل.. وتذكرت أنني رجل وأنني يجب أن أعتمد على نفسي بعد أن كنت أعتمد على أمي.. إذن، هذا هو عم سيد الذي كنت أسمع عنه ولم أره في حياتي إلا مرة واحدة قبل ذلك.. وإذن هذا هو عم سيد الذي سأراه كل يوم في الصباح والذي أسمع منه: صباح الخير.. وأرجو ألا يقول لي يا حبيبي.. فأنا لا أحب أن أسمعها من أحد بعد ذلك.. ولم يكن عم سيد يرتدي الملابس السوداء ولم يكن الحزن باديا على وجهه.. لقد جاء عم سيد وهو متوقع مني أن أشتري منه كما هي العادة وكأن شيئا لم يحدث.. ولا بد أنه سعيد فقد باع كل ما عنده من لبن.. وكأن وفاة والدتي لا تعنيني كلي وإنما تعني جانبا واحدا مني.. فأنا حزين أكاد أتمزق ولا أريد أن أعيش ولا أريد أن أري أحدا بعد أمي.. ولا أريد أن أسمع أحدا بعدها.. كل شيء كما هو.. الناس يجرون.. والشمس تتسكع.. والتراب بليد.. والدخان لا يفارق المداخن إلا بصعوبة.. معه حق فالفراق صعب!