العربة والجدار

TT

يمكننا التطلع إلى سقوط جدار برلين قبل عشرين عاما على أنه مجرد حدث استطرادي شديد الأهمية، أو على أنه منقلب حضاري غير محدود الأثر. فالجدار لم يكن الحجارة التي كسرها الناس بأيديهم، وإنما كان الشكل المرئي للستار الحديدي غير المرئي. وعندما سقط شعر كل أوروبي، أنه لن يكون في إمكان أحد بعد اليوم - في هذه القارة - أن يفصل بين أفراد العائلة الواحدة أو الوطن الواحد أو الأرض الواحدة. لقد انهار الجدار الفاصل كما انهار أيضا جدار الضم الإرغامي في الاتحاد السوفياتي: عاد كل شعب إلى جمهوريته ودولته، سواء للأسوأ أو للأفضل. لكن لم تعد أذربيجان أو يريفان تحكم من موسكو.

أظهر سقوط جدار برلين أن في إمكان مجموعة من الناس، في لحظة معينة، أن تهدّم أعتى الأسوار. ولم يسقط مصاب واحد، حتى إغماء. الغريب أن الجدار سقط في موجة من الفرح لا من الغضب. كانت الناس تهتف وترقص ولم تكن تحطم الواجهات أو المحال القريبة. كانت الناس تريد أن تنسى لا أن تنتقم. وبعد توحيد برلين أبقى الغربيون شارع كارل ماركس على ما هو. فالمسألة لم تكن ماركس بل الماركسيين. العتاة والجلادون والتماسيح الذين كلفوا أنفسهم سحق البشر وإلغاء الحياة البشرية باسمه. لو كان ماركس يعرف أن منفذي وصيته سيكونون ستالين وفالتر شيل وبيريا، لكان تأكد من تمزيقها قبل أن يموت.

مشكلة الذين وضعوا الآيديولوجيات لهذا العالم أنهم كانوا من الأدباء والحالمين. يجلسون في بيوتهم ويتخيلون ويكتبون. لكن الويل هو في «القوميسار» الذي يتولى تفسير الفكر على الأرض، في الأرياف والدساكر وبوادي سيبيريا. عندما أقام نيكيتا خروشوف جدار برلين، لم يكن قد تخلص من الراعي الأوكراني الذي فيه. لم يكن يعرف ماذا يعني أن يقسم بلد واحد إلى بلدين ثم تقسم عاصمته إلى مدينتين ثم يُرفع جدار بينهما. لم تكن هذه تعاليم ماركس. كانت أقصى ما وصل إليه تفكير عامل المنجم الذي رأى في الجدار تقدما على ما عرفه هو في ظل ستالين.

غريب هذا العجيب الذي نسمّيه التاريخ: أن تكون برلين، في قرن واحد، رمز الحرب الكبرى ثم رمز التقسيم الأكبر ثم رمز السلام المذهل. من هتلر إلى جدار خروشوف إلى تفتيت جدار خروشوف بالأيدي وبيع حجارته تذكارات مسلية. تحت ركامه انطوى عصر كامل من الديكتاتوريات والحمق الفكري والعتو والجنون البشري. لا يمكن بعد ذلك بروز تشاوشيسكو آخر في أوروبا. يستطيع أن يكون فلاديمير بوتين حازما بقدر ما يريد، لكنه لا يستطيع إرسال قطة إلى سيبيريا.

صنع محمد البوعزيزي شيئا من هذا. طوبة في جدار الرعب. قال للعرب إن من حق الإنسان أن يعيش وأن يفرح وأن يحزن وأن يعمل، ولا يحق لأحد أن يروضه مثل السعادين. أحرق نفسه من أجل كرامته وأشعل النار في جدار الظلم العربي.