شبرا شبرا

TT

في آخر خطاب له من مقاره السرية، خاطب الأخ قائد الثورة جماهير الشعب قائلا: طهروا ليبيا شبرا شبرا. يلاحظ أن استخدام المقاييس قد ضاق، فالشبر شبر أقل بكثير، من الزنقة زنقة والدار دار. غير أن المشكلة في استخدام المقياس العشري، أن حساباته تفترض الدقة، مثل كل النظريات الرياضية.

قبل أن ندخل في هذه المسألة، يجب أن نلاحظ أن العقيد عاد إلى استخدام اسم بلده كما عرف منذ التاريخ، وليس بلقبه الأخضر. فهو يقول «طهروا ليبيا» وليس «الجماهيرية العظمى». وهذا تواضع جم واستذكار حسن. أما من حيث الفراسخ والأشبار والزنق، فقد قطع الجرذان الذين يراد تطهيرهم نحو 900 كيلومتر في اتجاه طرابلس. ووزير داخلية العقيد كان آخر من عبر الممر الآمن إلى تونس. فإذا بدأت عملية التطهير الآن شبرا شبرا فالمسألة طويلة جدا إلى بنغازي. والطريق غير مضمون. والدليل أن العقيد الذي ظهر بألف صورة وألف وسام وألف بذلة عسكرية وألف تاج من الذهب، لم يعد الآن يظهر حتى في استقبال ضيف زائر.

في آخر مؤتمر صحافي له كان الوزير العراقي محمد سعيد الصحاف يهدد العلوج، ثم اكتشف أنهم خلف ظهره. نحن أمام مشهد آخر من تراجيديا العراق: الرجل الذي يعتبر نفسه توأم بلده (السيامي) ويفقد كل علاقة بالواقع والحقيقة. زحف الحلفاء على برلين ودمروها زنقة زنقة، وهتلر في قبوه الفولاذي لا يزال يأمل بالنصر بعدما دمرت من حوله أوروبا وروسيا ومنزل جده في النمسا. لا يرى القائد الحقيقة إلا في آخر جدار مهدم من جدران بلده. فهو أكثر أهمية من وطنه وشعبه. والدليل أنه «الفوهرر» وليس الرئيس ولا المستشار. ويجب ألا يبقى بلده من بعده ولا شعبه أيضا. يعيشان معا أو يموتان معا.

في الحالات الفردية يرسل الرجل المهجور من يقتل هاجرته، أو من يرمي وجهها بالأسيد، أو يقتلها ثم ينتحر. في الحالات العامة يتصرف الزعماء والجماعات بالنتائج نفسها، إن لم يكن بالطرق نفسها. سوف يتبين أن زين العابدين بن علي وحسني مبارك، كانا الأكثر علاقة بالواقع على الرغم من انفصالهما عنه. ولنفترض أن معمر القذافي قادر على الانتصار، فهل تساوي زعامة ليبيا عشرين ألف قتيل ومليون مشرد، وخرابا عاطفيا اقتصاديا اجتماعيا، ودمارا نفسيا لا حدود له؟

ماذا ينفع أن يحكم رجل فوق هذا الدمار والفحم والمآسي؟ لقد كانت ليبيا بعد الحرب العالمية الثانية أكبر مقبرة لبقايا الحديد الألماني وفولاذ الحلفاء. وها هي تتحول إلى أكبر مقبرة لحرب الإخوة بقيادة اللجان.