أن نعيش وألا تعيش!

TT

في ركن وعلى كنبة من الجلد تمددت.. وتقرفص إلى جواري شاعر من شعراء مصر الممتازين.. إنه نحيل.. رقيق.. وشعره أسود منكوش.. وقبل أن أفتح فمي بكلمة قال: على فكرة نحن تعودنا على التقبيل بصورة كريهة.. ولا أعتقد أنني رأيت في العالم كله رجالا يقبلون بعضهم بعضا كما يحدث في مصر بمناسبة ومن غير مناسبة.

حاجة سخيفة ومقرفة أيضا - بادرني بقوله: اسمع.. أنا حقيقة.. لا شك حقيقة.. هل يستطيع أحد أن ينكر وجودي.. لا يمكن.. أنت تستطيع أن تشنقني.. أن تخنقني.. ولكن ستكون قضيت على جسمي.. أما اسمي فسيبقى.. أنا أحسن شاعر في هذا البلد.. إذا كانت المعاني طيورا فأنا الشجرة الوحيدة التي يجب أن تعيش فيها.. إذا كانت المعاني جميلة فأنا قيثارتها.. إذا كانت المعاني نجوما فأنا سماؤها.. كده ولا لأ.. وقلت: كده..

وعاد يقول: تصور يا أستاذ إنهم في لجنة من اللجان.. يا شيخ بلا قرف.. لا داعي لهذه السيرة.. دعنا نضحك.. دعني أقول لك كل سنة وأنت طيب.

وقالها للمرة العشرين.

وفي المرة الواحدة والعشرين وهو يعانق صديقا آخر قال له: اسمع.. أنا حقيقة.. اسأل هذا الرجل (مشيرا ناحيتي) وهو يحدثك عن حقيقتي.

ومر من أمامنا أحد الجرسونات يحمل صينية بها كفتة.. أو طعمية لا أذكر.. والفارق بين الاثنين ليس واضحا في ذهني الآن.. وقلت لشاعرنا الكبير: وهذه أيضا حقيقة.

وغضب وهو يقول لي: أنت إذن لم تعرف حقيقتي.. أنا الشجرة.. أنا السماء.. أنا الشمس التي تطلع على الشجرة فيجيء شاعر تافه ويغني للشجرة وينسى الشمس.

وكان لا بد أن أنهض من الكنبة الجلدية وأبحث عن صديق آخر.. وأنا أضحك.. فالضحك أيضا حقيقة وهو حلم، وهو أمل كل الناس في عالم تعب من الجد والحرب والقلق.. وجلست إلى جواري سيدة.. كل شيء بحساب في كلامها وفي حركاتها.. ولا أعرف إن كانت سعيدة في هذه الهيصة التي لا حساب فيها لا في الكلام ولا في الحركات.. ولا أعرف إن كانت المرأة حريصة أيضا على المساواة مع الرجل في فقدان الحساب في الكلام والحركات.. وتتحرك وتتكلم علي حريتها كالرجل!