مَن لجياع الصومال؟.. «موجبات» إحياء العمل الخيري وتوسيعه

TT

بسبب إرهاب 2001: ردمت منابع العمل الخيري الإنساني، وسدت أبوابه، وطورد فاعلوه.. وهذه جناية كبرى يبوء بإثمها فاعلوها إلى يوم القيامة؛ كلما منع خير أو معروف بسبب جنايتهم، وحماقتهم.. وجناية المتسببين في محاصرة العمل الخيري الإنساني، ليست أكثر جرما من الذين استغلوا هذا التسبيب أبشع استغلال، أولئك الذين ظهروا وكأنهم كانوا يتحينون الفرصة لضرب العمل الخيري الإنساني (الإسلامي بالذات)، بناء على لوثة «التعميم» والإطلاق، وإذ يفعلون ذلك، فإنما يشنون حربا ظلوما على الجياع والعراة والمكروبين والملهوفين في كل مكان.. نعم، هم يعاقبون هؤلاء المساكين قبل أن يحاربوا إجرام الإرهابيين.. ثم إن هذا التفكير متخلف، وسلوك مجرد من المعرفة الحضارية، بمعنى هل سوء تطبيق المبدأ الصحيح (وهو العمل الخيري الإنساني ها هنا) يقضي - منهجيا وعقلانيا - بإلغاء ذات المبدأ؟ إذا كان الجواب أن «نعم»، فلن يبقى للناس أصل أو قاعدة صحيحة في حياتهم كلها، فإنه ما من قاعدة صحيحة إلا أسيء تطبيقها: التعليم، الطب، العلاقات الزوجية، القضاء، المرور، القانون، الكتاب، الصحافة، السياسة، التلفزيون، الدبلوماسية، الاقتصاد، الإدارة، الكيمياء، النقود، المساكن، الحدائق، الطاقة النووية، الدين، التفكير، اللسان.. إلخ. أما إذا كان الجواب أن «لا»، لا يجوز إلغاء المبدأ الصحيح لعلة سوء تطبيقه، فإنه في هذه الحالة يتوجب التفريق بين المبدأ وسوء تطبيقه فيدان الانحراف بالعمل الخيري، ولا يلغى المبدأ نفسه بالمحاصرة والمطاردة، فإن سوء تطبيق الطاقة الذرية (على يد أميركا في اليابان) لم يكن ذريعة لتجفيف منابع هذه الطاقة في العالم كله، ولم نسمع أحدا - يعتد برأيه - يدعو إلى ذلك!

وبالانتقال من التنظير إلى الواقع: يتوكد أن الرغبة غير المحترمة، وغير العادلة في تجفيف منابع العمل الخيري الإنساني عند المسلمين؛ يتوكد أن هذه الرغبة أو الإرادة أنشأت واقعا بشريا حزينا كئيبا منسوجا من الجوع والعري والمرض والموت.

والصومال شاهد ناطق بذلك كله. فقد تضافرت عوامل قلة أو انعدام العطاء لهؤلاء الفقراء مع عوامل الجفاف لتنشئ مأساة لا يحتمل وجودها ضمير ذي ضمير من بني آدم: مسلما كان أم غير مسلم.. ففي مثل هذه المآسي الإنسانية العامة ينبغي أن يتحرك الضمير الإنسان الحي، بصفته هذه، أيا كان دين أو مذهب صاحب هذا الضمير.. مثلا حين كانت طاحونة الموت والبؤس تطحن شعب البوسنة والهرسك، أفتى الشيخ عبد العزيز بن باز، مفتي السعودية السابق - رحمه الله - بأن يُعطى غير المسلمين من العون الإسلامي المقدم لذلك الشعب المضطهد من السعوديين (الشعب والحكومة).

ولا ندخل في تفاصيل مأساة الجياع والعراة وشبه الموتى في الصومال، حيث إن الفضائيات ووسائط الاتصال الاجتماعي قد تكفلت بنقل الصور المفصلة التي تستدعي الدمع من العين، وتصدم شعور كل ذي شعور إنساني يربطه بالصوماليين: إخوانه في الإنسانية والآدمية.

وإنما نفرد ما بقي من المقال لقضية العون العاجل الذي يتوجب تقديمه لجياع الصومال وعراته ونصف موتاه.

لا نكران لما قدم - حتى الآن - لهذا البلد المنكوب المكروب عبر منظمات إنسانية طوعية في عالمنا هذا.

ومشكورة هي السعودية التي بكّرت - بابتدار من عاهلها - إلى تقديم عون جزيل للصومال.

والشكر مبذول إلى منظمة التعاون الإسلامي التي تحركت بسرعة، ونشطت بإخلاص - بقيادة أمينها العام الدكتور أكمل الدين إحسان أوغلي - نشاطا تكلل بعقد اجتماع طارئ لوزراء 57 دولة إسلامية، وهو مؤتمر خصص لبحث المجاعة في الصومال، واستضافته تركيا؛ حيث انعقد في إسطنبول يوم الأربعاء الماضي. وكانت النقطة الرئيسية في أجندته اكتشاف سبل زيادة الأموال المخصصة لمساعدة الدول المنكوبة بالجفاف، ولا سيما الصومال (تعهدت المنظمة بتقديم 350 مليون دولار للصومال).

إن العمل الخيري ينبغي أن يتدفق - كالأنهار الرائقة - في الأحوال كافة، ففي عالمنا هذا من الفقراء والبؤساء ما يرجح عددهم الموسرين، الذين يستطيعون تلبية حاجاتهم وحاجات عوائلهم.. ويتعزز واجب العمل الخيري الآن بمقتضى حالتين: حالة الجفاف التي تضرب مناطق كثيرة من أفريقيا مثلا.. وحالة الركود الاقتصادي العالمي الذي تفشت - بسببه - البطالة على مستوى أممي.. يضم إلى ذلك: جنون الأسعار الذي يلتهم الدخول ويبددها تبديدا، ويفقر متوسطي الحال.

وفي هذا السياق، سياق المسابقة في العمل الخيري نفسه: غشينا السرور والحبور بولادة «جمعية الأمير سلمان للأعمال الخيرية» منذ أيام في السعودية. فقد فكر جمع من المواطنين في تكريم الأمير سلمان بمناسبة مرور أكثر من خمسين عاما على توليه إمارة منطقة الرياض، وذلك من خلال احتفالات متنوعة بهذه المناسبة. بيد أن الأمير عمد إلى تحويل هذه الاحتفالات الظرفية إلى «عمل نافع دائم» ممثلا في هذه الجمعية التي ولدت فتية بحكم التبرعات الأولية الجزيلة.

وهذه لفتة إيجابية إضافية تبرهن على محبة هذا الرجل للعمل الخيري الإنساني ومباشرته له، وهو حب فطري ديني صقلته وأصلته ستون عاما من الإشراف على هيئات العمل الخيري السعودي في داخل المملكة وخارجها.

وباستئناف الحديث عن مأساة الصومال: ينبغي أن يمتد النظر والعزم والاهتمام إلى ما هو أبعد من الحالة الراهنة.. ومن الحلول طويلة الأمد:

1 - تثبيت صيغة عون دائم منظم ومؤسسي ومهندس - بدقة - ينهض آليا بمسؤوليات الطعام والغذاء والدواء والكساء والإيواء.

2 - إيجاد علاج جذري لمشكلات الجفاف.. مثلا، من خلال شبكة من الآبار والأنهار الجوفية تضمن «الري الدائم» للناس والمزارع والمواشي.

3 - إنهاء حالة الحرب الأهلية التي كانت - بلا ريب - سببا دفينا في معاناة الشعب الصومالي؛ فعدم وجود حكومة مركزية قوية أطال عمر المأساة، فوجود الحكومة المركزية ضرورة لمعايش الناس وأمنهم واستمرار العمران. ولقد قال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه: «لا بد للناس من إمارة: برة كانت أم فاجرة»، فقال أناس: البرة عرفناها؛ فما بال الفاجرة؟! قال: «تؤمن بها السبل، وتصان الدماء والأموال، وتحفظ الحقوق، وينتظم المعاش».