جاء دور اللاذقية!

TT

في صبيحة 13-8-2011م احتشد نحو ثلاث عشرة دبابة، وعدد من السيارات المملوءة بالجنود في المنطقة الشرقية من حي الرمل الجنوبي لإنجاز مهمة عسكرية بغرض معلن، وهو اعتقال المخربين، بحسب مزاعم السلطة، غير أن الهدف الحقيقي وراء ذلك هو منع خروج المظاهرات من الحي. وما إن بدأت الآليات العسكرية في التحرك حتى بدأ أهل الحي يغادرونه إلى الأحياء الأخرى المجاورة، تنفيذا لنصائح عديدة قدمت لهم، تجنبا لوقوع خسائر بشرية كبيرة، وخصوصا أن الحي يكتظ بساكنيه. وبالفعل ما إن دخلت قوات الجيش الحي حتى وجدته شبه فارغ، ولم تواجه أي مقاومة تذكر، في دلالة واضحة على عدم وجود «عصابات» أو «مخربين» كما تدعي السلطة. ولم يكن اجتياح الحي المذكور سوى مقدمة لاجتياح المدينة بكاملها، وهذا ما حصل بالفعل، إذ سرعان ما انتقلت وحدات الجيش والأمن والشبيحة إلى الأحياء الأخرى، وبالتحديد حي الصليبة، وبستان السمكة، والسكنتوري، وقنينص، والشيخ ضاهر، وحي السجن، وغيرها من الأحياء القديمة في اللاذقية، أي إلى الأحياء التي ما انفكت طيلة الأشهر الخمسة الماضية تتظاهر سلميا في المساء، وتمارس حياتها الاعتيادية في النهار.

من المعلوم أنه منذ أكثر من شهرين انتشرت وحدات من الجيش في المدينة وأنشأت دشما لها على مداخل الشوارع، خصوصا في الأحياء الجنوبية من المدينة، التي كانت تنطلق منها المظاهرات، لتمتد إلى باقي أحياء المدينة. وكان الهدف من ذلك هو تجزئة المظاهرات وحصرها في الأحياء، حتى لا تكتسب طابعا جماهيريا، وتبرهن السلطة بالتالي على ادعائها بأن المتظاهرين لا يزيد عددهم على بضع عشرات، وأن غالبية سكان المدينة تقف مع السلطة وضد التظاهر. لقد أكد لي ذلك بعض الجنود الرابضين في الدشم المنتشرة على مداخل شوارع هذه الأحياء. واللافت أن هؤلاء الجنود قد نسجوا علاقات جيدة مع الأهالي، الذين يمدونهم بالماء والشاي وبعض الطعام، بل يتسامرون معهم دون أن يشعروا بأي خطر أو تهديد من عصابات مزعومة. وعندما سألت بعضهم: ألا تخافون من أن تهاجمكم العصابات المسلحة وأنتم في وضعية غير قتالية وتتسلون مع الأهالي؟ أجابتني ضحكاتهم، وألسنة بعضهم: عن أي عصابات تتحدث؟! لا وجود لها. مهمتنا المحددة هي منع المتظاهرين من الخروج من أحيائهم إلى وسط المدينة.

من المعلوم أن اللاذقية قد بدأت انتفاضتها بعد انتفاضة مدينة درعا بنحو عشرة أيام، أي في الخامس والعشرين من شهر مارس (آذار) من عام 2011، وسجلت بذلك المدينة الثانية التي تنتفض في سوريا ضد نظام الحكم. وقد حافظت المدينة طيلة هذه المدة على سلمية مظاهراتها رغم سقوط عدد كبير من الشهداء من أبنائها برصاص الأمن والشبيحة، ورغم ترويع الأهالي المستمر من قبل الشبيحة بسياراتهم الجوالة التي كانت تطلق الرصاص عشوائيا، تحت سمع وبصر قوات الأمن وحمايتها.

تتميز اللاذقية بـ«خصوصية» كبيرة بحسب مصادر السلطة، لكونها، من جهة، مدينة الرئيس ومكان نفوذ العائلات الحاكمة، ومن جهة ثانية لكونها مدينة مختلطة، قد تتسبب مشاركة القاطنين فيها من العلويين والمسيحيين في المظاهرات بأعداد كبيرة في إحراج السلطة. لذلك كان هدف السلطة منذ البداية هو الإبقاء عليها كخط تماس طائفي، تهدد به بإشعال فتيل صراع طائفي، سرعان ما قد يمتد إلى مناطق أخرى، وربما يشمل البلاد بكاملها.. مع أن شعب اللاذقية المتعايش منذ قرون فوت هذه الفرصة على السلطة، وأبطل ذرائعها باستمراره في حياته الطبيعية خلال النهار والتظاهر في الليل ومشاركة الشعب السوري جمعاته. وأكثر من ذلك فقد صدر في اللاذقية بتاريخ 22-3-2011م أول بيان يتعلق بانتفاضة الشعب السوري التي كانت لا تزال مقتصرة على محافظة درعا، ووقعه نخبة من سكان اللاذقية وكان غالبيتهم من الريف يدعون فيه الرئيس للمبادرة إلى عقد مؤتمر وطني لوضع سوريا على طريق التحول الديمقراطي، منبهين إلى أن الانتفاضة لن تبقى مقتصرة على درعا، بل سوف تمتد إلى جميع أنحاء سوريا، وهذا ما حصل. لقد كان من الممكن لو أنصتت السلطة لصوت العقل، صوت أبناء سوريا الموقعين على ذلك البيان، بل لو استمعت قبل ذلك لما كتبته بتاريخ 5-3-2011م تحت عنوان «آفاق الزمن القادم»، أي قبل حصول الانتفاضة بعشرة أيام، لوفرت على الشعب السوري الكثير من الآلام والمعاناة، ولحقنت دماء السوريين، ولبقيت سوريا عصية على التدخلات الخارجية، قوية بشعبها، محافظة على دورها الإقليمي والعربي البارز. بدلا من ذلك شنت حملة شعواء على موقعي البيان واتهمتهم بأنهم عملاء بندر بن سلطان ينفذون خطته.

اليوم وبعد أن اجتاحت القوات العسكرية والأمنية السورية مدينة اللاذقية، كما اجتاحت مدنا وبلدات سورية عديدة، في تطبيق لخيارها الأمني الذي سارت عليه منذ البداية، فهي تتوهم بأنها تستطيع أن تقضي على انتفاضة الشعب السوري بعد كل هذه التضحيات الجسام التي قدمها على طريق الظفر بحريته وكرامته، وبناء دولته المدنية الديمقراطية، والتي تجاوزت حدود الألفي شهيد ونحو عشرين ألف معتقل بحسب تقديرات منظمات حقوق الإنسان. ورغم التواطؤ الدولي الواضح مع النظام، المتمثل في إعطائه المهل، مهلة بعد أخرى، لكي يقمع انتفاضة الشعب السوري، فإنه لن ينجح، والشعب الذي غصت به الشوارع والساحات لن يغادرها حتى تحقيق مطالبه المشروعة. ينبغي أن تقتنع السلطة الحاكمة قبل فوات الأوان، وقد بدأ يفوت بالفعل، بأن الشعب لم يعد يرضى العيش في ظل حكم استبدادي أمني مافيوي ظالم، إنه يتطلع إلى الحرية وإلى الديمقراطية، وإلى حكم القانون. وكلما تأخر النظام في الاستجابة لهذه المطالب، تعقدت الأزمة أكثر، وتدخلت القوى الخارجية في الشأن السوري، وهي بدأت بالفعل تتدخل معلنة عن مطالبها، بعد أن كانت تمررها من تحت الطاولة. لقد قلنا مرارا إن الدم يغلب الرصاص، وكلما تغول النظام في قمع الشعب رد عليه بإنزال مزيد من المتظاهرين إلى الشوارع. سوف تنجحون أيها المستبدون في اجتياح اللاذقية، لكنكم سوف تفشلون في كسر إرادة أهلها، الذين سوف يظلون يتظاهرون بأعداد أكبر وأكبر، وبمشاركة من جميع سكانها، حتى تتم هزيمتكم، وحتى يظفر الشعب السوري بحريته وكرامته ليبني دولته المدنية الديمقراطية. وسوف تعود اللاذقية إلى سابق عهدها مدينة التعايش والإخاء، رغم كل التشوهات التي حاولتم إدخالها إلى صورتها الحقيقية.

* كاتب سوري معارض