خلفية تاريخية لأزمة المبادئ الدستورية

TT

هجوم الإسلام السياسي على إعلان المبادئ الدستورية المصرية ذكرني بالقول الإنجليزي «كل غمامة باطنها فضي». وربما تتمثل هدية الغمامة الأخيرة في كشف المصريين للنوايا الحقيقية لهذه الجماعات وزيف شعارات تستغل عمق مشاعر الشعب للإيمان - قبل ظهور الأديان السماوية بألفي عام - لتجر المحروسة إلى منزلق الشمولية الثيوقراطية الفاشية.

زميلنا طارق الحميد تساءل قبل يومين عما إذا كان المصريون يمكنهم الثقة بالإخوان؛ تاركا الإجابة للناس بعد تذكيرهم، كناخبين، بحاجتهم للتأكد من نية من يقدم مشروع إصلاح اقتصادي متكاملا مفهوم التفاصيل، ومن القدرة على تنفيذه مع برنامج إصلاح سياسي يحمي البلاد من الانزلاق إلى فاشية ثيوقراطية إيرانية النمط.

بفحص شعارات الإسلامويين ومناقشات نواب الإخوان في محاضر البرلمان لا يجد الناخب المصري ذكرا لمشروع لحل أي قضية، ولو في بساطة تخفيف ازدحام خط أتوبيس، بتفاصيل خطوات عملية بميزانية محددة الأرقام ومصدر التمويل.

استبدال شعارات براقة أو دينية بخطط الإصلاح يؤدي لشمولية آيديولوجية ستنهي أطول فترة سلام في التاريخ الحديث. افتعال صراع خارجي وسيلة الديكتاتورية الشمولية للتهرب من وعود الإصلاحات ولإرهاب الناس للسير على صراط الآيديولوجية المستقيم.

إغفال التاريخ المعاصر - الذي كنا شهودا على أحداثه كمؤرخين وصحافيين - قد يؤدي إلى الانزلاق إلى الشمولية الثيوقراطية التي يخطط لها الإظلاميون، بتغيير قواعد اللعبة أثناء المباراة، وليس الاتفاق عليها قبل انطلاق صفارة الانتخابات؛ مما يفسر التهديد بإشعال النار في المحروسة اعتراضا على إعلان المبادئ على الأسس الدستورية مخالفة لاتفاقهم السابق مع بقية المصريين من قوى سياسية ومع المجلس العسكري.

فوسط فوضى الثورة والتي زاد لهيبها بوليس تحول إلى بلطجية وعصابات تمزج عنف القمع بالفساد، يتعرض المصريون لمؤامرة، تحركها الصحافة الناصرية، لمحو الذاكرة وتزييف التاريخ، بأن الفساد وقمع الدولة البوليسية للحريات المدنية وإهدار ثروة مصر وسرقة مواردها، بدأه مبارك عام 1981. الحقيقة أن العفن السياسي والفساد الذي بلغ أوجه في السنوات الأخيرة، ولد من رحم الدولة البوليسية الستالينية ببذرة انقلاب 1952.

وما مبارك (1981 - 2011) إلا الحلقة الثالثة من ديكتاتورية 23 يوليو (تموز) بسابقتيها، الناصرية (1954 - 1970) والساداتية (1970 - 1981).

بعد رعب المنظومة الليبرالية، عالميا وإقليميا ومصريا، من الإسلام السياسي في سبتمبر (أيلول) 2001 تحولت الجماعة «المحظورة» إلى الوجه الآخر من عملة الحزب الوطني الديمقراطي (الاتحاد الاشتراكي سابقا، وقبله الاتحاد القومي)؛ ليوهم النظام المصريين والعالم أن بديل المرحلة المباركية من ديكتاتورية 23 يوليو، هو الطالبانية، أو الحماسية أو الخومينية.

تبادل الوطني والجماعة الأدوار، ومنحوا المقاعد البرلمانية في الانتخابات المزورة، وأصدروا فتاوى طاعة الحاكم. وهم شركاء اليوم في حركة التضحية بمبارك وأولاده كثمن لقلب العملة من وجه الوطني إلى وجه الجماعة ليبقى النظام بمفصلياته وأدواته وتستبدل شمولية ديكتاتورية 23 يوليو بشمولية ثيوقراطية.

الدعم الأميركي (قرابة 40 مليار دولار) وتخفيض الإنفاق العسكري (30 مليار دولار) شيد في مصر المباركية من بنية تحتية 20 ضعف ما شيد في عهدي سابقيه (رغم انتشار الفساد). فرغم ضغوط الصحافة الغوغائية الناصرية (برشاوى من البعثيين والقذافي والقومجيين العروبيجيين) التزم مبارك باتفاقيات كامب ديفيد (1978) التي حققت لمصر أطول فترة سلام عرفتها حديثا (33 عاما)؛ بينما خاضت ديكتاتورية 23 يوليو في 17 عاما، أربع حروب مباشرة، وأخرى غير مباشرة، وقودها أرواح آلاف المصريين وثرواتهم. وهذا ليس رأيا بل معلومات تاريخية لتحذير الناخب المصري من شعارات الإخوان وأكاذيب الناصريين لإيقاعهم في فخ ديكتاتورية أخرى.

الشمولية الفاشية، سواء آيديولوجية كالموسيلينية أو الهتلرية أو ثيوقراطية كإيران، دائما ما تخوض الحروب كذريعة لقمع الشعب. منذ إعلان ولاية الفقيه خاضت حروبا مباشرة مع الفاشية الصدامية، واليوم ضد الشعب السوري، أو عبر العملاء في لبنان والعراق والبحرين، أو بدعم الجماعات الإرهابية.

لا بد من التذكير بالتاريخ - سواء القريب كإعلان زعيم الجماعة «طز في مصر وأبو مصر» - أو بستة عقود نمت فيها النبتة الشيطانية للفاشية الشمولية من بذرة انقلاب 52 لتجنب تكرار الأخطاء وليجيب المصريون بأنفسهم على سؤال الزميل طارق الحميد حول مدى إمكانية الثقة بالمتسربلين بعباءة الدين.

الوثائق، ومذكرات الضباط، والساسة، وزعماء الإخوان، وعشرات رسائل الدكتوراه والأبحاث الموثقة، وأقوال الشهود، ومحاضر الجلسات والاجتماعات وحيثيات حكم المحكمة الإدارية (ومرافعات محامي الإخوان لاستثنائهم من قرار انقلاب 23 يوليو بحل الأحزاب عام 1954 مقسمين على المصحف علنا بأنهم جماعة تبشير دينية لا حزبا سياسيا، ولا ينوون ممارسة نشاط سياسي حاضرا أو مستقبلا) متوفرة في مكتبات العالم ومراكز الأبحاث وأرشيفات المحاكم والصحف.

هل القسم على المصحف الشريف يقتصر على حرفية العبارة أم النوايا في القلوب؟

هل غياب كلمات «جماعة» أو «إخوان» أو «مسلمين» من اسم الحزب الجديد تعني أن من أدوا القسم على المصحف لم ينكثوا العهد؟

اتفاقهم (بقسم على المصحف) مع عسكر 23 يوليو، بدأ تنفيذه بفتاوى تحلل ذبح الديمقراطية (كتحريم الأحزاب السياسية والدستور).

وعندما اختلفوا مع الكولونيل عبد الناصر على تقسيم جثة مصر، بمطالبتهم بنصيب أكبر، نسوا قسم المصحف وأطلقوا النار في المنشية على شريك الأمس.

في مفارقة معاكسة تناسى الطرفان الخصومة الدموية. الناصريون يعيدون «هيكلة» الذاكرة المصرية يشاركون الإخوان هدف إنقاذ هيكل نظام المرحلة الثالثة من ديكتاتورية 23 يوليو بأدواته ومفصلياته. الإسلام السياسي والناصرية يتشابهان في الشمولية والمصالح ويخشيان مبادئ دستورية تحدد قواعد اللعبة قبل الانتخابات.

ورغم أن نضج النظام البرلماني يكتمل فقط بخضوع المؤسسة العسكرية لوزير دفاع سياسي منتخب وقائد أركان جيش يختاره مجلس الوزراء المنتخب، فلا بد من وجود ضمانات في المراحل الأولى من استعادة الديمقراطية. النازيون بزعامة هتلر، أكبر مجرم حرب في التاريخ، وصلوا للحكم بانتخابات حرة ديمقراطية دفعت ألمانيا والعالم ثمنها 30 مليونا من الأرواح.

ولذا فلا بد من ضامن بعدم تكرار تجربة ألمانيا عام 1933 في مصر 2011.

الذين نقضوا اتفاقهم مع الكولونيل ناصر، ومع الأمة - قسما على المصحف - بعدم خوض السياسة، وفي الأشهر الأخيرة مع بقية القوى السياسية والمجلس العسكري برفض إعلان المبادئ الدستورية، من يضمن أنهم لن يكرروا مأساة هتلر إذا فازوا في الانتخابات؟

عندئذ تتحول المحروسة إلى شمولية ثيوقراطية تخوض الحروب، وتدفع بالخصوم السياسيين إلى معسكرات الإبادة، وتفرض الجزية على من لا يشاركهم آيديولوجية ولاية الفقيه.