صندوق المفاجآت للربيع

TT

لقد انسقنا جميعا وراء تسمية ما يحدث في فضائنا العربي منذ ديسمبر (كانون الأول) الماضي بأنه «ربيع العرب». هذا الانسياق كان خلف ما حدث من ربيع في أماكن أخرى، خاصة في أوروبا الشرقية، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. إلى درجة أن ذهب بعضنا توصيفا لما حدث في لبنان، منتصف العقد الماضي، إلى أنه «ربيع»، بعد اغتيال رفيق الحريري، بل وآخرون وصفوا بداية العقد في دمشق بأنه ربيع دمشق! هل تذكرون؟! وكلاهما تحول إلى خريف موحل.

إلا أن ربيع العرب في جزء منه تحول إلى نهر من الدماء، خاصة في سوريا، وما زال هذا النهر يتدفق في كل من ليبيا وإلى حد ما في اليمن، ترى ما هو الاختلاف والاتفاق بين الدول الأربع التي حدثت فيها «وحول الربيع»؟ وما مستقبل هذا الربيع الموحل المخضب بالدماء هناك؟

على الرغم من أن المظاهر الخارجية تبدو واحدة في الدول الخمس التي أصابها الربيع، فإن الفروقات تحت السطح كثيرة، وتنبئ عن نتائج مختلفة بين كل هذه الأماكن الخمسة، تونس، مصر، سوريا، اليمن، وليبيا.

لا أريد أن أقلل من الأحداث، فهي جسيمة وتاريخية وعميقة، وربما نتج عنها ما لا نستطيع تصوره اليوم في كل المنطقة. ولكني أريد أن أتعرف على ما يجمع، وما يفرق، أحداث هذه المراكز الخمس، وهي للتذكير ربع الدول العربية (دول جمهورية)، وأكثر الدول العربية من حيث السكان كثافة، من أجل قراءة أكثر استنارة.

يتوافق علماء الاجتماع على أنه لا شيء يحدث في المجتمع، لا تكون له جذور في الماضي، فلا ينبت الزرع في أرض قاحلة. من هنا فإن نضج الحدث يعتمد على الخلفية التي سار فيها سياق الحدث نفسه.

الإجابة مطلوبة وملحة على سؤال ربما يسأله البعض، هو لماذا تم التغيير بشكل نسبي أسهل في كل من مصر وتونس، والتغيير في الثلاث دول المنتفضة؛ اليمن وليبيا وسوريا ما زال المخاض عسيرا نسبيا أو عسيرا جدا.

الإجابة الأولى معروفة وربما متفق عليها، وهي موقف الجيش الوطني، فكل من تونس ومصر، وبسبب تكوين الجيش التاريخي والعملياتي، وقف الجيش أولا محايدا، ثم مال إلى التغيير. ولكن تلك أسهل الإجابات. السبب الثاني والأهم هو «الإصلاحات النسبية» التي قام بها كل من نظام مبارك ونظام بن علي في الجانب الاقتصادي. لقد برزت قوى اجتماعية جديدة في كل من تونس ومصر، وقوى سياسية شبه منظمة في العلن أو في السر.

لا يستطيع أحد أن يجادل بأن سقف الحريات في مصر في السنوات الأخيرة كان مرتفعا نسبيا، إلى درجة أن رئيس تحرير إحدى الصحف المعارضة المصرية، كتب مقالا افتتاحيا يشير فيه إلى الرئيس السابق مبارك بقوله «وإنك لميتٌ»، كان ذلك في افتتاحية صحافية مشهورة.

تحسن الوضع الاقتصادي في تونس أيضا متفق عليه، صحيح أن بعض الشرائح الاجتماعية سقطت من قفة التنمية، إلا أن الصحيح أيضا أن تونس حققت تقدما اقتصاديا مشهودا.

في الحالتين التونسية والمصرية، تقدم الاقتصاد إلى درجة أنه احتاج إلى تقدم سياسي، تلكأت القيادة، وربما تصور لها أن التقدم الاقتصادي يغني عن أن يشعر الناس بالكرامة، ويشاركوا بجد في أمور حياتهم العامة، وانصب الاهتمام على تنمية البيروقراطية العسكرية، وخصوصا الأمنية، وتجاهل تام للمسار السياسي، فحصل الانفصام الحاد، الذي جعل الجمهور يتدفق إلى الميادين ويردد «الشعب يريد». ولكن بسبب وجود مؤسسات؛ سواء في مصر أو تونس، تاريخية ومتماسكة، مثل الجيش في الحالين، ومثل اتحاد الشغل (اتحاد نقابات العمال) في الحالة التونسية، وفي الحالة المصرية تراث من العمل السياسي المنظم، أصبح التغيير ممكنا بأقل التضحيات البشرية بالتزامن مع قليل من الحياء السياسي الذي جعل النظامين يضحيان بعدد محدود من البشر، ولكن دون التوغل في إراقة الدماء.

المهزلة الملهاة أن كلا من نظام مبارك وبن علي كان ضحية شيء من إنجازاته التي سهلت لثورة اجتماعية صامتة، ولم يتلفتوا إليها ولا إلى التجريف السياسي الذي أحدثوه!

في الحالات الثلاث الأخرى، اليمن وليبيا وسوريا، وإن اختلفت بعض العناصر، فإن مجملها يسير بشكل مضاد لما ظهر من نتائج في تونس ومصر. إنها تخضب بالدم الزكي دون حياء أو رادع.

الجيش أولا؛ فالقذافي لا يملك جيشا منظما وحديثا، ما لديه أقرب إلى الميليشيات الشعبية المدربة، والجيش اليمني مركب قبلي له ولاءات متعددة دون عقيدة عسكرية، بل قبلية، والجيش السوري في غالب قياداته طائفي. إذن كان ذلك العنصر الأول الذي سهل التغيير، تركيبة الجيش التي اختلفت في الدول الثلاث، التي تشهد التحول الطويل.

ما شهدناه ونشهده من انشقاق في الجيش الليبي واليمني والسوري، هو جزئي، وليس كليا، ولا يعول عليه لترجيح الكفة. وهنا فإن الاعتماد على موقف حاسم للجيش لحسم تدفق نهر الدماء قد يتأخر أو لا يحدث.

في الاقتصاد لم تحظ أي من تلك الدول الثلاث باقتصاد صحي. اليمن بلد دون موارد اقتصادية مهمة، والموارد القليلة محتكرة ليبيا على الرغم من أن غناء الدولة من ثروة النفط يقابله بالضبط وبنفس الدرجة تبديد للثروة وإفقار للمجتمع، الثورة الليبية كانت توزع جزئيا على الموالين، أو تصرف في مغامرات خارجية.

سوريا أيضا مواردها الاقتصادية إما محتكرة أو موزعة على الموالين في دائرة ضيقة، في الوقت الذي يعاني فيه معظم الشعب السوري من الفقر والحرمان الاقتصادي، فالعامل الاقتصادي في الثلاث دول لم يخلق طبقة وسطى شبه مستقلة، مع غياب أي تنظيمات سياسية خارج تنظيمات الدولة.

ربيع العرب إذن هو ربيع طويل، أصعبه سوريا، لغياب القيادة البديلة، حتى في ليبيا واليمن هناك قيادات بديلة بعضها جاهز ولديه برنامج ومعترف به دوليا كقيادة المجلس الانتقالي في بنغازي، والآخر مثل اليمن، هناك فريق يتفاوض وعناوين معروفة للمعارضة.

في الحالة السورية، المعارضة ليس لها عنوان حتى الآن، مع نجاح نسبي في التضليل الإعلامي الرسمي بأن هناك جماعات مسلحة تقاوم الدولة.

ما يجمع الأنظمة الخمسة، وغيرها كثير من البلدان العربية، هو القراءة الخاطئة للأحدث الجسام التي تهز الكيان السياسي العربي، كما لم يهتز قط منذ الحرب العالمية الأولى. عواصف الربيع ستظل معنا والمرحلة الانتقالية سوف تطول، وصندوق العرب الربيعي مليء بالمفاجآت.

آخر الكلام:

الدور التركي انتقل من الملعب السياسي إلى الملعب الإغاثي، رئيس الوزراء التركي في الصومال، رسائل سياسية وليست إغاثية، من يدري من سوف يأتي بعده، ربما أحمدي نجاد، في الوقت الذي قدمت فيه الدول الخليجية أكبر حجم إغاثي يُذكر للصومال حتى الآن، وبصمت سياسي شبه مطلق.