المجلس الوطني الانتقالي الليبي في الميزان

TT

المجلس الوطني الانتقالي في مدينة بنغازي هو مجلس تأسس على عجل، بفعل الأحداث المتلاحقة التي يعرفها كل من تابع ثورة الشباب الليبي، وذلك حتى يكون لهؤلاء الشباب عنوان يستطيعون من خلاله التعبير عن إراداتهم واحتياجاتهم، ويتسلمون بواسطته رسائل العالم لهم. لذلك كان هذا المجلس مركبا بشكل أملته الظروف القاهرة التي مرت بها ليبيا حينئذ، والتي وجدت نفسها فجأة أمام خيارات تاريخية لا بد من اتخاذ قرار فيها، ومسالك لا بد من عبورها، فكان هذا المجلس. وليس في هذا الأمر عيب. فكأن الأمر يتعلق بأعمى ردت له نعمة الإبصار بعد 42 سنة من العيش بلا نظر، رهينا لمحبس الظلام.

حقق هذا المجلس انتصارات كبيرة في المجال الدولي، حيث هرعت دول كثيرة للاعتراف به كممثل شرعي ووحيد للشعب الليبي، وإن كانت هذه الاعترافات في أغلبها غير ناتجة عن قدرة المجلس على إقناع هذه الدول بتمثيله الشعب الليبي بكفاءة بقدر ما كانت ناتجة عن كره دول العالم لنظام القذافي.

هذا المجلس اليوم، وبعد اغتيال اللواء عبد الفتاح يونس غدرا، يملي أداؤه على كل ليبي وقفة تأملية لإعادة الحسابات والتدقيق الموضوعي في الخيارات، وكذلك استشفاف مستقبل الصراع ونجاعة الآليات المتضافرة من أجل حسمه، وكشف كافة الأخطاء التي ارتكبت فيما مضى من مرحلة النضال.

ليستسمحني أعضاء المجلس الموقرون الذين تربطني بكثير منهم علاقات صداقة ومودة أن أضع مثالبهم على محك النقد، لأن الوطن أكبر منا جميعا، ولأن مستقبل هؤلاء الشباب، الذين ضحى جزء منهم بحياته، يجب أن يكون أمانة في أعناقنا جميعا، فليس من الأخلاق في شيء أن يجامل بعضنا بعضا، أو أن نغض الطرف عن أخطائنا، أو أن نبرر كبواتنا غير آبهين بهذه التضحيات، وغير مكترثين بمستقبل الوطن.

كنت أتمنى أن يكون هذا المجلس مشكلا من الشباب الثائر، فإنهم أحق بأن يمثلوا ثورتهم من أي أشخاص آخرين لم يأتوا إلا بسبب خبرة مفقودة أو شهرة لا تفيد الثورة بشيء. ولكن الماضي لا يعرف كلمة (لو) لأنها ليست إلا تعبيرا عن بؤس الأماني الخائبة.

يبدو أن أكثر أعضاء المجلس الوطني الانتقالي قد استنفدوا تاريخيا وعمليا الغرض الذي من أجله التأموا فيه، وذلك بسبب أخطائهم الجسيمة التي اقترفوها، لا عن نية سيئة أو قصد غير شريف، وإنما بسبب افتقادهم للخبرة السياسية. لذلك نرى لزاما علينا أن نعدد بعض هذه الأخطاء التي لو استمرت مستقبلا فسوف تقضي على الثورة وتدمر البلد تماما.

1- إن الخطيئة الكبرى للمجلس الوطني الانتقالي هي عدم إنشائه للجيش الوطني، وقد أضاع هذا المجلس أكثر من 5 أشهر من عمر الثورة في وهم أن القذافي سوف يسقط أو يرحل اعتمادا على الغطاء الجوي الأجنبي وعلى ميليشيات لا تملك العدة ولا العتاد لتحقيق ذلك. وبفعلته هذه أدخل البلاد في حالة من الفوضى المسلحة، بحيث أصبح انتشار السلاح وبيعه لكل من يملك الثمن السمة الغالبة على هذه الفترة.

إن امتناع المجلس الوطني الانتقالي عن تأسيس هذا الجيش أشاع الإحساس لدى المواطنين بانعدام الأمن، ذلك أنه إلى جانب الشباب الذين يقاتلون في الجبهات أو الذين يضبطون الأمن، ثمة مجموعات أخرى لا نعرف ماذا تفعل ولماذا تتسلح وما هي الأسلحة التي في حوزتها، مما دفع بالكثير من المواطنين إلى السعي لامتلاك السلاح خوفا من المجهول. كما أن عجز المجلس الوطني عن ضبط هذا السلاح لعدم وجود جيش وطني أفقده ثقة الحلفاء الذين عزفوا عن الاستجابة لطلباته بتسليح الثوار.

إن الجيش الوطني هو الجسم الوحيد الذي يستطيع أن يعطي للمجلس القوة التي من خلالها يتمكن من فرض القانون والقرارات الثورية، وفي غياب هذا الجيش اضطر المجلس الانتقالي للجوء إلى الميليشيات المسلحة ذات الآيديولوجيات الصاخبة وأحيانا المتطرفة حتى يعزز قوته السياسية والإدارية، فأضحى رهينة لهذه القوى، يكاد يأتمر بأوامرها. بل إن كثيرا من أعضائه لا يكفون عن ممالأتها والتقرب لها زلفى. وكلي رجاء في أن لا ينطبق على المجلس قول المتنبي:

ومن يجعل الضرغام للصيد بازه

تصيده الضرغام فيما تصيدا

2- والخطأ الكارثي لهذا المجلس الوطني أيضا أنه ترك المجال مفتوحا لكل من أراد أن ينشئ ميليشيا مسلحة في المناطق المحررة الخاضعة لسلطته، ولم يكن يعرف حتى عدد الميليشيات التي تم إنشاؤها ولا هوية أعضائها أو آيديولوجياتهم أو مراميهم أو تمويلهم، فإذا بلغ عدد الميليشيات في برقة المحررة الآن 47 فصيلا خلال هذه الأشهر القليلة، فكم سوف يكون عددها بعد سنة إذا استمرت هذه الفوضى المسلحة؟ ولكل ليبي أن يتساءل كم سيصل عدد هذه الميليشيات المسلحة في كل الوطن إذا استمرت إدارة هذا المجلس القاصرة على هذه الوتيرة؟ وهل سيبقى هناك وطن في ظل هذا الأرخبيل المدجج بالسلاح؟

3- إن الأخبار المتواترة من ليبيا التي ترد إلى أسماع صناع القرار في العالم تقول إن الإسلاميين قد سيطروا على السلاح وعلى المجلس الوطني الانتقالي والمكتب التنفيذي التابع له، وهؤلاء الإسلاميون ليسوا من سلة واحدة. فإلى جانب «الإخوان المسلمين» المعتدلين الذين نعتبرهم شركاء في كل شيء يهم الوطن شريطة أن يكون بلا سلاح مستقل عن مؤسسات السلطة في الدولة، ثمة تنظيمات متطرفة أخرى يسيء انضمامها ليس للثوار والمجلس فقط وإنما للوطن ومصلحته العليا.

فبعد اغتيال اللواء عبد الفتاح يونس على أيدي الكتيبة التي اعتقلته والتي تضم بين عناصرها أكثر من 60% من التكفيريين، أصبح الوضع الأمني في غاية الخطورة، ليس بسبب اغتيال اللواء عبد الفتاح فقط، وإنما بتكليف هذه الكتيبة المتطرفة بإلقاء القبض عليه من قبل نائب رئيس المكتب التنفيذي السيد علي العيساوي. معنى ذلك أن المتطرفين وصلوا إلى لب المجلس ودخلوا إلى مناطق صنع القرار. وإذا ما استمر هذا الوضع واستشرى هذا العبث، فإن الثورة ستجهض لا محالة وسوف يدخل الوطن في فوضى وتشظ يصعب بعدهما لملمة أشلائه.

4- إن المجلس الوطني قد سلم الأسلحة التي وصلته بادئ الأمر إلى بقايا الجيش الليبي، فقاموا ببيعها نتيجة للفقر والعوز الذي يعانون منه. فوصل إلى أيد متطرفة ومنظمات إرهابية وتسرب بعضها إلى دول الجوار، ثم عندما استدرك المجلس خطأه قام بخطأ أكبر منه، فسلمها إلى بعض الشخصيات الموصومة بالتطرف، رغم أنهم لم يقوموا ببيعها كسابقيهم إلا أنهم استغلوها في تسليح الموالين لهم فقط، مما اضطر الثوار بالجبل الغربي ومصراتة إما إلى دفع أثمان باهظة من أجل الحصول على السلاح أو إلى الانضمام إلى هؤلاء حتى يتمكنوا من التسلح. وهذا خطأ قاتل للمجلس الوطني وللوطن.

5- عدم قدرة المجلس الوطني على المبادرة، بحيث لم تصدر منه طيلة هذه الفترة أي مقترحات لحل سياسي للأزمة أو أي مبادرات دبلوماسية للخروج منها، وإنما انكفأ على نفسه ولم يقم إلا برفض المبادرات والاستخفاف بالأفكار التي تطرح عليه حتى قبل اطلاعه عليها أحيانا. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مراهقة سياسية سوف تقود الثورة إلى طريق مسدود، وقد تصل بنا إلى أخطر من ذلك وهو فرض مبادرة سياسية بالقوة على جميع أطراف النزاع. وهذا يبين لنا أن المجلس الوطني قد ولد معاقا لا يدرك الواقع ولا يفهم آلية الصراع، فهو يدير الثورة ويتعامل مع العالم بعقلية إدارة فرع بلدي في قرية مغمورة، وليس برؤية السياسي الذي يضع كل السيناريوهات الممكنة نصب عينيه، ويجترح كل الاستراتيجيات المحتملة، ويغير من آليات سياساته حسب واقع الأحداث.

6- إن المجلس الوطني الانتقالي، وبناء على الشرعية الدولية التي نالها، أصبح هو الممثل للشعب الليبي حصرا، سواء أكان ذلك في المناطق المحررة أم في المناطق الخاضعة للنظام، ولكننا لم نسمع منه يوما ولو مرة واحدة نداء إنسانيا يدعو فيه المنظمات العالمية أو المجتمع الدولي إلى تخفيف المعاناة عن المناطق غير المحررة التي تعاني من نقص الدواء والغذاء والكهرباء. صحيح أن ثمة إشكالية في تزويد هذه المناطق بالوقود حتى لا يستغله النظام لحركة آلياته العسكرية، ولكن هذا لا يعني عدم تزويد هذه المناطق بالكهرباء عن طريق دول الجوار بحيث ترفع المعاناة عن هذه المناطق وفي نفس الوقت لا يستفيد النظام من هذا الإجراء.

7- إن السيد رئيس المجلس الوطني الانتقالي المستشار مصطفى عبد الجليل هو رجل أجمع عليه الليبيون في الفترة الأولى من الثورة، لما كان يظهر عليه من التقوى والورع والوداعة، ولكنه شخص أضعف من أن يكون رئيسا لمجلس وطني انتقالي في حالة حرب وثورة، فهو يحاول أن يرضي الجميع حتى على حساب مستقبل الثورة والوطن، ويعتقد أن الأحداث وحدها وبتداعيها سوف توصل الثورة إلى مبتغاها بقدرية سلبية، كما أنه لا يدرك أن بعض التنظيمات والشخصيات التي تدور في فلكه ستؤدي إلى نتائج سلبية على المستويين الوطني والعالمي لحملها شعارات وأفكارا خطرة وأجندات سرية. إنه لم يحرر نفسه من شباك هذه الشخصيات والتنظيمات، بل ترك لها هامشا كبيرا في تسيير دفة الأمور، وفي إنتاج القرارات الخاطئة التي تضر بمصلحة الوطن. كما أن الشيخ مصطفى يتحكم في الأموال والقرارات بفردانية شيخ القبيلة، وكان أولى به أن ينكب على التشريعات ووضع اللوائح والقوانين التي تسهل على المواطنين حياتهم وعلى الثوار مسيرتهم، وأن يترك للمكتب التنفيذي بقية الأمور الأخرى كإدارة الأموال ووضع الخطط الاقتصادية والأمنية والعسكرية والخطط المتصلة بالعلاقات الدولية وغيرها بمراقبة من المجلس وتحت رعايته.

بعد هذه الانتقادات التي وجهناها بكل الحب والتقدير للمجلس الوطني الانتقالي ورئيسه، يلزم علينا أن نقدم الاقتراحات العملية التي تخرجنا من نفق هذه الأخطاء الجسيمة، وحتى يكون للنقد حظ من البناء:

1- على المجلس الوطني الانتقالي أن يعيد تشكيل نفسه من شخصيات وطنية تغطي كافة أقاليم الوطن وبعدد قليل من الأفراد، على أن لا تكون له علاقة بالأموال والأمور الفنية التي تحتاجها البلاد في كل مرافقها.

2- على الأعضاء الذين تم اختيارهم لهذا المجلس من المناطق المحررة أن يرجعوا إلى مدنهم وقراهم ويحاولوا تنظيمها وإدارتها والبت في شؤون المواطنين المعيشية.

3- يجب أن يحل المكتب التنفيذي بعد تشكيل المجلس الوطني الانتقالي الجديد ويعاد اختيار أعضائه حسب الكفاءة والخبرة، ويجب أن يكون تصرفه في الأموال بشفافية عالية تحت إشراف المجلس الوطني ولجانه الرقابية، وحبذا لو اتخذ مصراتة أو الجبل الغربي مقرا له.

4- يجب على المكتب التنفيذي أن يعلن عن إنشاء الجيش الليبي الوطني في كافة المناطق المحررة، وأن يقبل المتطوعين لهذا الغرض، وأن ينشئ مجلسا عسكريا بقيادات شبابية، وأن يطالب الدول الحليفة بتسليحه وتدريبه.

5- كما أن المكتب التنفيذي مطالب بالنظر في الأوضاع المعيشية للناس ومحاولة إيجاد الوسائل والأموال اللازمة للنهوض باقتصاد المناطق المحررة وبطرق بعيدة عن الأساليب القديمة للسياسات القذافية التي كانت تعتمد على منهجية الاستجداء والتسول والتنبلة.

لقائل أن يقول: لماذا هذا النقد والتجريح الذي يثلم سيف الثورة أو يصيب البعض باليأس والإحباط في هذه الظروف الصعبة؟ أرد قائلا: إن معاملة الشعوب معاملة القصر هي نظرة استعلائية من مخلفات الديكتاتوريات التي نحاول أن نفلت من براثنها، وإن الثورة تعامل الجماهير على أنهم وصلوا من الرشد إلى درجة مكنتهم من الانتفاض على الاستعباد، فلم يعودوا قصرا لا يفرقون بين الحقائق والأباطيل؟ إن من واجبات الثورة أن تكشف كل الحقائق مهما كانت مرة، لأن إخفاءها وما ينجم عنه من مخاطر وخسائر سوف يتحمله الشعب وحده وسوف يسدد كل فواتيره المكلفة.

أما أولئك الذين سينتقدون صراحة هذا المقال ووضعه للمجلس الانتقالي تحت مجهر النقد، باعتبار هذا المجلس رمزا لليبيين لا تجوز إشاعة أخطائه حتى لا تهتز سمعته في نظرهم، فإنني أجيبهم بأن هذا النهج في التفكير قد واريناه تراب الذاكرة مع نظام القذافي الذي كان يعتبر نفسه خطا أحمر، والذي وضع نظامه في مصاف المعبودات المقدسة.

إن الشعب الليبي بعد ثورته العارمة التي حطم فيها صنم اللات لن يبتني في موضعه صنما للعزى.

* معارض ليبي