الخائفون عاجزون عن تحقيق الاقتصاد الحر

TT

لي ثأر بايت مع اللغة الفرنسية، ليس لعجزي عن تعلمها بل لرفضها هي أن أتعلمها، ولعل الموقعة الفاصلة بيننا كانت في عام 1954 في مدرسة دمياط الثانوية في امتحانات الثقافة العامة (4 أعوام بعد الابتدائية ثم التوجيهية بعدها بعام واحد) كان مقررا علينا في الإنشاء عشرون موضوعا، وكان الحل الوحيد لكي تنجح هو أن تحفظ هذه المواضيع عن ظهر قلب، وعندما يأتي أحدها في الامتحان، عليك أن ترصه على الورق على الفور، حتى الآن لا أعرف السر في أنني اكتفيت بحفظ موضوع واحد هو «رحلة إلى الريف» ربما لأن الجو السياسي في تلك الأيام كان لا حديث له إلا عن الفلاحين الذين حصل كل منهم على خمسة أفدنة من أراضي الإقطاعيين «الأوغاد» كنت على يقين أن قطعة الإنشاء هذه، ستأتي في الامتحان. وفي الامتحان حيث يكرم المرء أو يهان كما يقولون، جاء موضوع الإنشاء عن رحلة إلى الإسكندرية، يا إلهي.. ماذا أفعل وأنا لا أعرف الكلمات التي تصف الشاطئ والسباحة وأمواج البحر والنسيم اللطيف والآيس كريم في جليم، وعلى الفور بدأت الكتابة، كان من السهل علي أن أجد الكلمات الفرنسية التي تغطي الجملة الأولى.. بينما أنا في طريقي بالقطار إلى الإسكندرية، نظرت من النافذة إلى الحقول فشاهدت الفلاحين وهم يقودون جواميسهم إلى الترعة لتشرب أو لتستحم، كما شاهدت بعضهم وهم يركبون الحمير وهم يمسكون بشمسياتهم مفتوحة فوق رؤوسهم لتحميهم من حرارة الشمس.. هكذا مضيت في تسميع الموضوع الوحيد الذي أعرفه. أظن أنني حصلت في هذا الامتحان على درجتين من عشرين ربما لأن الجملة الأولى - بينما أنا في طريقي بالقطار إلى الإسكندرية - كانت لغويا سليمة، بالإضافة بالطبع إلى أنها كانت داخلة حقيقة في الموضوع.

ترى، ما الذي ذكرني بهذه الواقعة، إن مشاهد الماضي لا تطفو على السطح فجأة إلا إذا حدث في الحاضر ما يدعوها إلى الحضور، نحن في حالة اختبارات دائمة، في كل لحظة تطلب منا الدنيا الإجابة عن سؤال، وما لم نكن جاهزين بالمعرفة اللازمة للإجابة عنه، من المحتم أن نخرج عن الموضوع.

أفكر في أن غالبية الناس حولي، عاجزة عن وصف رحلة إلى الإسكندرية وقادرة فقط على وصف رحلة إلى الريف حيث الفلاحون والجاموس والحقول وبقية المفردات المحفوظة عن ظهر قلب، في معظم برامج الحوار التلفزيونية، والمقالات المنشورة، اطرح أي سؤال عن المستقبل، وعلى الفور سيحدثونك عن الماضي، أو يعرضون عليك حلولا سبق لها أن أفسدت الماضي. هناك عجز بالفعل عن الحديث عن المستقبل وماهيته وطريقة الوصول إليه.

هناك حديث دائم عن الدستور وعما هو فوق الدستور وما هو تحته، هناك حديث عن طبيعة الانتخابات، هناك حديث عن الخوف من وصول أصحاب الإسلام السياسي للحكم، وحديث آخر عن أنه لا خوف من وصولهم حيث لم يعد بوسع أحد أن يفعل بالمصريين أكثر مما فعل النظام السابق، غير أن السؤال الإجباري في الحياة هو عن الطريق الذي تنوي مصر اتخاذه في السياسة والاقتصاد، هل سنتجه إلى الحرية الاقتصادية؟

إن الحرية الاقتصادية تتطلب سلاما وأمنا حقيقيين، يصنعان قاعدة سلامية بيننا وبين بلاد العالم، وهذا يتطلب بدوره العمل بكل جد لمساعدة الفلسطينيين على إنشاء دولتهم المدنية الديمقراطية القادرة على العيش بسلام مع جيرانها، فهل نحن على استعداد لذلك، أم أننا نحرص على استبقاء صراعات الماضي بكل ما تحفل به من الكراهية والألم والإحباط، كخط دفاع لنا يحمينا من مشقة العمل ومواجهة تحديات العصر. إن تخويف المصريين الدائم من الأجانب والتعامل مع الأجانب، هو أمر يتناقض مع الحرية الاقتصادية وفي أحيان كثيرة يتناقض مع الشرف الإنساني نظرا لما يترتب عليه من فقر وخراب.

في جريدة الأهرام المصرية وعلى صفحتها الأولى (الأربعاء 17 أغسطس 2011) نقرأ «كشفت تحقيقات نيابة أمن الدولة العليا مع الجاسوس الأردني بشار أبو زيد المتهم بالتجسس ضد مصلحة البلاد عن مفاجأة مذهلة، وهي أن ضابط الموساد الإسرائيلي أوفير هراري طلب منه القيام بتأسيس شركة لاستيراد المنتج الإسرائيلي (الكرياتين) الخاص بتصفيف الشعر لدى النساء والرجال على أن يكون هو الوكيل الوحيد لهذا المنتج في مصر، كاشفا له عن أن هذا المنتج يسبب العقم لدى النساء والرجال وذلك من أجل القضاء على النسل المصري نهائيا».

هناك إذن في إسرائيل من يريد القضاء على النسل المصري نهائيا، كما كان يحدث في الأساطير القديمة، وكأنه لا توجد في مراكز مصر وقراها ملايين المصانع التي تنتج الأطفال، والتي تعمل منذ غروب الشمس حتى الفجر، وأحيانا تعمل في ورديات نهارية، ثم ما هي حكاية مادة «الكرياتين» هذه؟ في الغالب هي نوع من الصبغة، والصبغة في مصر تستخدمها المرأة التي تجاوزت سن الحمل والولادة، أما الرجال الذين يضعون الصبغة فمعظمهم موجود في سجن طرة الآن، أي نسل الذي ستقضي عليه هذه المادة، نشر هذا النوع من الأفكار التي لا تليق بإعلام أي بلد متحضر، يمنع الاقتصاد الحر والحرية بوجه عام من التحقق، حرية التجارة لا تتحقق مع الخوف الناتج عن الخرافة، ستعجز عن شراء سلعة أو تصدير سلعة لشخص هولندي فربما يكون يهوديا أو له خالة متزوجة من إسرائيلي، نفس الخوف سنشعر به في مواجهة أي شخص قادم من أي بلد، أليس من الجائز أن المخابرات الإسرائيلية هي التي أرسلته؟

لقد خرجت طليعة الشعب المصري متمثلة في شبابه إلى ميدان التحرير طالبة الحرية والعدل، والحرية ليست أغنية أو قصيدة أو عملا فنيا، بل هي إجراءات على الأرض تتطلب اتخاذ قرارات مؤلمة للنفس ومنها تصفية القطاع العام والتخلص من الزائدين عن الحاجة. الناس تعمل بدافعين لا ثالث لهما، الرهبة أو الرغبة، وعدد الراغبين في العمل قليلون للغاية أي لا يعتد بهم في سوق العمل والعمالة، الخطر الحقيقي يأتي من هؤلاء الذين يحصلون على أجور وحوافز ويتظاهرون من أجل الحصول على المزيد منها، ولا يعملون لأنه لا يوجد من يخيفهم، لا تستطيع أن تفصلهم لأن قوانينك العمالية كلها اشتراكية، لم يكن العمل مطلوبا منهم في يوم من الأيام، كانوا مكلفين بالهتاف فقط، هل يرحب هؤلاء بالتخلص من القطاع العام بينما هم من سكان عشوائياته؟

هل يرحب الصحافي كاتب الخبر الذي قرأته منذ لحظات بأن يتملك المساهمون من الشعب المصري جريدته؟ ما أجمل أن تعمل في مكان لا صاحب له. وما أجمل أن يكون عملك هو إشاعة الخرافة والبلاهة والكسل العقلي.