أولويات مصرية.. في ظل التداعيات الإقليمية

TT

«السلطة الحكيمة تعرف كيف تفرض موقفها ولكن برفق.. وتصالح ولكن بكرامة».

(جورج غرينفيل)

مع العد التنازلي لـ«اللانظام» القذافي في ليبيا، يستمر نضال الشعبين اليمني والسوري ضد القهر «العائلي» الممارَس عبر عقود باسم العروبة والسيادة الوطنية ومكافحة الإمبريالية، بينما يتجه لبنان، وحده دون سائر كيانات العالم العربي، بالاتجاه المعاكس.. أي من وضعية الدولة شبه الديمقراطية إلى أرض تحتلها «قوى أمر واقع» مسلحة. غير أن ما حدث في شمال شرقي سيناء وقرب إيلات (بجنوب إسرائيل) خلال الأسبوع الفائت، وما خلفه من تداعيات، يطلق إشارة تنبيه للجميع ولمن يقفون وراءهم.

ما حدث في سيناء وقرب إيلات (أيلة في التاريخ الإسلامي) تطور كان متوقعا.. بل كان متوقعا جدا. فهل يمكن فصل ظاهرة «الربيع العربي» عما كان يعتمل على امتداد العالم العربي، من المحيط إلى الخليج، من مشاعر الغضب والإحباط من العجز وقلة الحيلة.. بينما يشتد الصلف الإسرائيلي، ويتسارع إيقاع الاختراق الإيراني، وتستعيد تركيا اكتشاف ذاتها.. وتتصرف على هذا الأساس؟

ألم يكن طبيعيا أن يتململ المواطنون فيتساوى عندهم في حالات كثيرة الموت والحياة - كما يحصل اليوم في سوريا، وما حصل مع محمد البوعزيزي في تونس - لفرط البؤس الذي فاقمته الأزمة الاقتصادية العالمية، بعدما طحنهم طحنا «غولا» التسلط والفساد؟

كثرة من المحللين اعتبروا أن المجتمعين المصري والتونسي كانا، على الرغم من التسلط والفساد المستمرين في مصر منذ 1981 وفي تونس منذ 1987، في وضع أفضل نسبيا من غيرهما من المجتمعات المنتفضة الأخرى؛ ذلك أن نسيجي المجتمعين المصري والتونسي أمتن، ومؤسساتهما المدنية والعسكرية أكثر صلابة.. ففي حالة ليبيا نرى الآن كيف تحولت شعارات «العروبة» و«الثورة الأممية الدائمة» إلى نداءات استنهاض للولاء القبلي. وفي حالة اليمن حصل تلازم أكثر تعقيدا بين ثلاثة عناصر تقسيمية، هي: القبيلة والمذهب والجغرافيا الإقليمية. أما في حالة سوريا فقد أضيف إلى العنصر القومي والعنصر الديني – الطائفي، اللذين حاول النظام استغلالهما لتسهيل ضرب الانتفاضة الشعبية، واقع الحسابات «التصادمية – التعايشية» بين إسرائيل وإيران. ولئن كانت إيران قد غدت، منذ فترة، العمق الاستراتيجي لنظام دمشق، فإن استمرار هذا النظام ما كان متيسرا لولا الارتياح الإسرائيلي لبقائه، بل والإصرار الإسرائيلي على حمايته.

إسرائيل، تحت حكم اليمين والعسكر، تتابع باهتمام اليوم، بلا شك، ما يحصل حولها. وهي تدرك جيدا امتدادات خيوط التحالفات الإقليمية، ومفاتيح اللعبة، ومطامح اللاعبين الإقليميين والدوليين.. وهي منهم. وإذا كان ضمن تفكير مخططي السياسة الإسرائيلية راهنا تحديث «مقاربة» تل أبيب لملف إيران – سوريا – حزب الله (في لبنان) في ظل المتغيرات السورية واللبنانية الأخيرة، يستحق التحليل حقا نهج تعامل تل أبيب منذ بداية «الربيع العربي» في مطلع عام 2011 مع وضع مصر. وبالتالي، فإن خطوة مثل استدعاء القاهرة السفير المصري من تل أبيب تشكل نقلة نوعية في العلاقات الثنائية غير المرتاحة بين القاهرة وتل أبيب، وبالذات، منذ جاء بنيامين نتنياهو إلى السلطة.

السؤال البديهي الذي يطرح نفسه هنا هو: ما الخطوة المصرية التالية لقرار استدعاء السفير؟ هل ستذهب قيادة المجلس العسكري الحاكم أبعد في رسم حدود معينة للتعامل مع إسرائيل، أم أن ما حصل كان إجراء عابرا حتمته ظروف معينة، سواء أكانت مفتعلة أم غير مفتعلة؟

ثم إذا كان ما حدث في شمال سيناء وإيلات حوادث مفتعلة، وهي على الأرجح كذلك، فمن الجهة التي افتعلتها؟ وماذا تستفيد منها؟

ثمة مراقبون يرون أن المجلس العسكري، الذي يمثل المؤسسة العسكرية، يعتبر انطلاقا من هذه الصفة «حزب السلطة» الحقيقي والفعلي منذ عام 1952. وهذه الحقيقة الراسخة، نسيها أنور السادات فكان لا بد من إزاحة «السادات الشخص» للإبقاء على نظامه، ثم نسيها مجددا حسني مبارك - بل حاول لاحقا تجاوزها - فكان لها موقفها الحاسم منه، وهو الموقف الذي أنهى حكمه بسرعة من دون أن ينهي النظام.

ومن ثم، فإن في صميم مصلحة «حزب السلطة» هذا المحافظة على النظام الذي يعمل ضمن إطاره. وفي زمن استعادة الشعب صوته يصبح لزاما على هذا «الحزب» الإصغاء، وأخذ العلم بالهواجس والطموحات وصراعات الأفكار ومواجهات المواقف. وعليه، لا بد لهذا «الحزب» أن تكون له مواقف ترضي الشارع عندما يسقط عسكريون قتلى في منطقة حدودية حساسة، وأمام من يعتبره قطاع واسع من الشعب قوة «عدوة».. على الرغم من معاهدات السلام التي تربط مصر معها. ومن نافل القول هنا أن تل أبيب استخفت طويلا بدور مصر العربي وتآمرت عمدا عليه.. فترك «الغياب» المصري عن الساحة العربية فراغا سرعان ما بدأ يملأه غيرها.

في المقابل، ثمة من يشير إلى مصلحة خارجية - وإقليمية تحديدا - لزج مصر البلد ومصر «السلطة»، بوجهها العسكري الحالي، في استحقاقات صراع المواقع المحتدم على مستوى منطقة الشرق الأوسط. واستطرادا، يذكر بالجهة التي بات لها دور كبير في آلية اتخاذ القرار في قطاع غزة، والتي ترى نفسها القوة الوحيدة الموازية لإسرائيل والمتكافئة معها على مستوى المنطقة، والساعية - من ثم - إلى توجيه «رسائل» بضرورة احترام مصالحها الإقليمية.

في مطلق الأحوال، على المجلس العسكري إدراك الواقع الحالي بعمق ورسم خطواته بعقلانية. فلا أحد في العالم العربي، إطلاقا، يغضب من موقف مصري حازم من استمرار العربدة الإسرائيلية، لكن لا أحد أيضا يسعده أن يرى مصر وقد تعثرت خطى مسيرتها نحو حكم ديمقراطي عاقل ومسؤول.

أصلا، العلاقات مع إسرائيل كان من الواجب مراجعتها منذ زمن طويل، كما أن على القيادة المصرية الحالية، أو أي قيادة مدنية أو حزبية تأتي بعدها، التوصل إلى تصور مختلف يكون أكثر توازنا لعلاقة مجحفة استفاد منها حتى الآن شريك متعنت دون شريكه. لكن في المقابل، في صميم المصلحة العربية ألا يرتبك «الربيع المصري»، لا سيما بعد بروز خطر الفتنة الداخلية على أيدي قوى التطرف والإلغاء.