فعل يريد

TT

تحكم المناسبة أحيانا إعادة نشر شيء سبق نشره، آخذا في الاعتبار أن البعض لم يطلع عليه في المرة الأولى: كان في لبنان صحيفة تدعى «رقيب الأحوال» تشبه اسمها إلى حد كبير. إذ رغم صدورها في الستينات كانت تشبه صحف القرن الذي سبق، بعناوينها، ونوعية أحرفها، ولهجتها الهادئة وتعابيرها وورقها. وذات يوم سافر صاحبها سمعان فرح سيف في إجازة فقرر نجله، الزميل يوسف، أن يدخل بعض التحسينات على صحيفة الوالد، بادئا بالافتتاحيات التي قرر تغيير لهجتها المسالمة، فراح يقول مثلا: «نطلب من الحكومة..» و«نريد من الدولة..» و«لا نقبل بأن..». وعاد الأستاذ سيف، الأب، من السفر وراح يتفقد «أحوال» الرقيب في غيابه، فكاد يفقد صوابه للتغيير الثوري الذي طرأ على الصحيفة. ونادى على ابنه وراح يفند المساوئ: «أهكذا يخاطبون الحكومة يا ابني؟ نريد؟ لماذا ليس نتمنى». «أهكذا يجاهرون الدولة: نطلب؟ لماذا ليس نأمل؟»، «أهكذا نعاتب الوزراء: أيها السادة؟ لماذا ليس أيها الأعزاء يا أصحاب المعالي؟». وذهبت دروس الأستاذ سيف في أصول المعارضة مثلا. وغاب وغابت صحيفته وغابت معهما مدرسة ترى في الوالي سيدا وفي الوزير مولى وفي جابي الكهرباء بيكا من البكاوات وأغا من الأغاوات، كما تركت لنا التقاليد العثمانية، التي برعت في توسيع الإمبراطورية وتضييق صدور الناس.

يتنبه الأستاذ محمود سويد، مدير مؤسسة الدراسات الفلسطينية، والزميل العريق، إلى ظاهرة واحدة في الربيع العربي («النهار» - 18/8/2011) ها هو الشعب العربي يخرج أخيرا رافعا يافطة كتب عليها: الشعب يريد! كنا نعتقد أنه نسي فعل الإرادة، بعدما تحولت كلمة الشعب نفسها إلى مضحكة تستخدمها الأنظمة، كما يستخدم المدربون في السيرك قطعة اللحم للحيوانات الجائعة: يحمل المدرب السوط بيد، ويمد اليد الأخرى إلى وعاء اللحم. ولا يسوط الحيوان دائما بل ربما أبدا، لكنه يأتي بالسوط صوتا راعبا باستمرار، حتى لا يعود صاحبه أو ضحيته، قادرا على التمييز، إن كان لذلك سبب أم لا. لكن السائط وألعوبته، يتعودان هذه الشراكة بلا أي تفكير: سوط آلي وعبد آلي.

يدوم ذلك إلى أن يغيب الأستاذ سمعان فرح سيف في إجازة وينتبه ابنه إلى ورود كلمة نريد في اللغة! لكن جيل الأب تعود عليها واستمرأها ولم يعد يرى غرابة في الخنوع. بل يرى فيها جزءا من التهذيب وآداب السلوك. ممنوع عليك أن «تريد» بل كل ما يحق لك هو أن تجلس تحت الشجرة وتنتظر سقوط الثمار.

كلمات قائمة في اللغة منذ جذورها، أما الجديد فهو استخدامها اليوم. العربي يتذكر فجأة أن بعض الكلمات لها معان.