وثيقة الشيخ الطيب

TT

فجأة.. دعا الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، عددا من القوى السياسية، مع عدد آخر من رموز العمل العام، إلى اجتماع في مقر المشيخة، صباح الأربعاء الماضي، جرى خلاله توقيع «وثيقة» الأزهر، التي كانت قد صدرت قبل أسابيع، وكان حولها - وقت صدورها - بعض الخلاف.

الوثيقة تدعو - باختصار - إلى مدنية الدولة المصرية، بحيث يظل الأساس في مصر، هو «المواطنة» التي تعني المساواة بين جميع المواطنين، دون تفرقة بينهم، على أي مستوى.

قبل التوقيع على الوثيقة بساعات، كان الفريق سامي عنان، رئيس أركان حرب القوات المسلحة، قد عقد لقاءً مع عدد من المثقفين والمفكرين، قال خلاله عبارة كانت هي «المانشيت» في جميع «الصحف المصرية» دون استثناء، في اليوم التالي، وهي عبارة تقول: «مدنية الدولة قضية أمن قومي، ولن تكون محل مساومة على الإطلاق».

وبصرف النظر عما إذا كانت هناك صلة مباشرة، أو غير مباشرة، بين لقاء شيخ الأزهر من ناحية، ولقاء رئيس الأركان من ناحية ثانية، فإن العلاقة بينهما، من حيث الموضوع، لا يمكن أن تخطئها عين؛ فالنتيجة في الحالتين واحدة، والدعوة في اللقاءين، كانت في اتجاه واحد، ونحو هدف واحد.. فهل تم ذلك كله، تلقائيا، ودون اتفاق، أم أنه قد جرى الاتفاق عليه مسبقا؟! سؤال يجب أن نطرحه، وأن نظل نسعى إلى الجواب عنه، خصوصا أنه ليست هناك معلومة كافية، حول ما إذا كانت «الرسالة» في الحالتين مقصودة، ويراد لها أن تقال هكذا في العلن، لمن يعنيه الأمر.

وحتى يمكن استيعاب ما تم التوافق عليه، من جانب الحاضرين، في لقاء شيخ الأزهر، وما قيل على لسان رئيس الأركان، فلا بد أن نرسل نظرة أفقية ممتدة على صيف هذا العام في القاهرة، لنرى ما الذي كان بالضبط يشغل العاصمة المصرية، سياسيا، وما علاقة ما كان يشغلها، طوال أشهر الصيف، بالتوافق حول الوثيقة الأزهرية، وأيضا بعبارة الفريق عنان.

كانت القاهرة على مدى الصيف كله منشغلة، وأكاد أقول مشتغلة، بجدل لا ينتهي حول عبارة من خمس كلمات هي: الدستور أولا.. أم الانتخابات أولا؟!

وكان هذا الجدل الذي اتسع واشتد، قد نشأ منذ الاستفتاء الذي دعا إليه المجلس العسكري في 19 مارس (آذار) الماضي، وما أعقبه من إعلان دستوري صدر في 63 مادة، وهو إعلان قيل وقتها إنه سوف يحكم الفترة الانتقالية لا التي تمتد من تاريخ تخلي الرئيس السابق عن الحكم في 11 فبراير (شباط) الماضي، إلى انتخاب رئيس جديد للبلاد يتسلم السلطة من المجلس العسكري.

وكان السؤال المعضلة بعد صدور الإعلان الدستوري، هو: هل تجري الانتخابات، سواء كانت برلمانية أو رئاسية، أولا، أم يوضع دستور جديد للبلاد أولا؟!

في الإجابة عن السؤال، انقسم البلد قسمين: واحد يضم كل القوى الليبرالية، وكانت تدعو جميعها إلى وضع دستور للبلاد أولا، لتجري الانتخابات على أساسه، فيما بعد، ووفقا له، وليس العكس، وساعتها، سوف تكون البلاد واقفة على أرض صلبة، ولن نكون لو جرت الانتخابات أولا، في حاجة إلى إجرائها ثانية، بعد وضع الدستور، فهو أمر قائم، وجائز على كل حال.

وكان القسم الثاني يجمع كل التيارات الدينية، وعلى رأسها جماعة الإخوان من خلال حزبها الذي تأسس بعد الثورة، تحت اسم «الحرية والعدالة» وكانت هذه التيارات، بلا استثناء، تدعو إلى إجراء الانتخابات أولا، وكانت تصمم على ذلك، وتصر عليه إلى درجة مخيفة، ولا أريد أن أقول مريبة.

وكان هناك تحذير طوال الوقت، على لسان كل عاقل في البلد، من أن إجراء انتخابات أولا، وفي الموعد الذي حدده المجلس العسكري، أي في آخر نوفمبر (تشرين الأول) المقبل، معناه أن التيارات الدينية، وفي مقدمتها الإخوان سوف تحصل على أغلبية نسبية في مقاعد البرلمان، وسوف تعمل، وقت وضع الدستور لاحقا، على أن تصبغه بصبغتها، بحكم أغلبيتها النسبية التي سوف تنعكس قطعا، في صورة أغلبية عددية، في اللجنة التي سوف يكون على البرلمان المنتخب أن يختارها لوضع الدستور.

ولم تكن التيارات الدينية، رغم هذه المخاوف لدى المصريين، تريد أن تطمئنهم إلى «مدنية» الدستور الجديد، ومدنية الدولة بالتالي، وإنما كانت في كل ما يصدر عنها تضاعف هذه المخاوف، وترسخ انطباعا لدى الغالبية، بأن مصر مقبلة على قيام دولة دينية فيها، لا مدنية، كما كانت على مدى تاريخها!

وكان هناك اتهام معلن، للمجلس العسكري، طول الوقت أيضا، بأنه ينحاز إلى التيار الديني، ولم يكن هناك شيء يؤكد هذا الانحياز، ولا كان هناك شيء ينفيه، اللهم إلا بعض عبارات النفي عند الضرورة، من جانب المجلس تارة، ومن جانب قيادات التيار الديني تارة أخرى.

ويبدو أن المجلس قد أراد أن يغسل يديه نهائيا، من هذا الاتهام، فكانت تلك العبارة القاطعة التي جاءت على لسان رئيس الأركان، فهي واضحة بما يكفي، ولا تحتمل أي لبس أو تأويل، وجاء لقاء شيخ الأزهر، بعدها مباشرة، ليؤكد عليها، ويزيدها رسوخا.

ولكننا في الوقت نفسه، نجد أنفسنا أمام مشكلة من نوع آخر، وهي أن الذين توافقوا في مكتب شيخ الأزهر، حول وثيقته، وصفوها بأنها «استرشادية» عند وضع الدستور الجديد، وميثاق شرف يلتزم به الجميع «طواعية».

فما معنى هذا؟!.. معناه أنها ليست ملزمة لأحد، فهي كما جاء في نصها «استرشادية».. كما أن الالتزام بها سوف يكون «طواعية»!

وربما يكون اللافت للنظر بقوة، أن الدكتور عصام العريان، القيادي الاخواني، قد وصف الوثيقة وقت توقيعها، بأنها «غير ملزمة» ثم زاد على ذلك بأن وصفها بأنها إقرار بدور الأزهر، ثم إنها - وهذا هو الأهم في كلامه - إقرار بالمرجعية الإسلامية للدولة!

ما قيمة الوثيقة - إذن - إذا كانت استرشادية، لا أكثر، وما قيمتها إذا كانت في نظر القيادي الإخواني البارز، غير ملزمة؟!

كان في إمكاننا، منذ البداية، أن نوفر كل هذا الجهد الذي بددناه، وكل هذه الطاقة التي أهدرناها، في نقاش بلا عائد، لو أننا توافقنا ابتداء منذ لحظة تخلي «مبارك» عن السلطة، على وضع الدستور - أولا - ليكون بمثابة الأرض المستقرة التي يقف عليها الجميع، غير أننا كنا - وربما لا نزال - كالذي انشغل ببناء الطابق الثاني في بيته، دون أن ينتبه إلى أن هذا الطابق يظل في حاجة إلى طابق أول يحمله.. وإلا.. كان طابقا معلقا في الهواء!